نبض سوريا - الدكتور محمد مصطفى اللداوي
مدير مركز رؤى للدراسات الاسترتيجية
في خطوة غير مسبوقة من حيث العلنية والعمق، كشف المرصد السوري لحقوق الإنسان عن اتفاق تم التوصل إليه بين حكومة أحمد الشرع (الجولاني) وإسرائيل برعاية مباشرة من الولايات المتحدة الأميركية، يتركّز في محافظة السويداء والمناطق المحاذية لها. هذا الاتفاق، الذي يرسّخ ترتيبات أمنية وإدارية واسعة، قد لا يكون مجرد تسوية محلية، بل مقدمة لتحوّلات استراتيجية في بنية الدولة السورية ووظيفة حدودها الجنوبية.
أولاً: السويداء تحت الوصاية الأمريكية
البند الأول من الاتفاق يمنح الأميركيين دورًا مباشرًا في ملف السويداء، وهو تحوّل جذري يعني نزع الملف من دمشق، ومن يد حكومة الجولاني ذاتها، وتسليمه لطرف ثالث يعتبر نفسه ضامنًا للأمن والتوازن الطائفي في جنوب سوريا.
هذه الصيغة تعكس أمرين:
• رغبة دولية في تحييد السويداء عن الفوضى المتفاقمة في بقية الجغرافيا السورية.
• خشية إسرائيل من تحوّل المنطقة إلى ساحة صراع طائفي مفتوح على حدودها.
ثانيًا: انسحاب العشائر وترتيب البيت الدرزي
البنود المتعلقة بانسحاب قوات العشائر وقوات “الأمن العام” من السويداء، وتفويض الفصائل الدرزية بتمشيط القرى، تؤسس لواقع جديد:
الفصل الجغرافي والطائفي بين الدروز والعشائر السنية، وهو ما يكرّس نوعًا من “الكانتونات الأمنية”، ويمنح الدروز هامش حكم ذاتي فعليًا، ولو بغطاء غير معلن.
هذه الخطوة قد تُرضي مؤقتًا الزعامات المحلية، لكنها تفتح الباب لتفكك أوسع على المستوى الوطني، عبر تثبيت مناطق نفوذ طائفي مناطقي تحت إشراف خارجي.
ثالثًا: المجالس المحلية بديلاً عن الدولة
يشير الاتفاق إلى تشكيل مجالس مدنية محلية تتولى الخدمات، وهو ما يعيد إنتاج تجربة “الإدارة الذاتية” في الشمال الشرقي، ولكن هذه المرة تحت مظلة أميركية/إسرائيلية.
غياب أي دور لحكومة الشرع أو دمشق في هذه المجالس يُبرز ضعف المركز ويؤكد توجه المجتمع الدولي نحو إدارة سوريا بـ”الوكالة” و”اللامركزية المتوحشة”.
رابعًا: نزع سلاح الجنوب.. حماية لإسرائيل؟
البند المتعلق بنزع السلاح من درعا والقنيطرة وتشكيل لجان أمنية محلية بدون أسلحة ثقيلة، يتقاطع مع المطالب الإسرائيلية المزمنة بجعل جنوب سوريا منطقة منزوعة السلاح.
إسرائيل، التي كانت تعتبر النفوذ الإيراني قرب حدودها تهديدًا استراتيجيًا، تجد اليوم في هذا الاتفاق ضامناً أمنياً متعدد الأوجه:
• إنهاء أي تهديد من جماعات سنّية أو شيعية مسلحة.
• عزل المنطقة طائفيًا وسياسيًا.
• إدارة الهدوء عبر واشنطن.
خامسًا: نهاية “الدولة المركزية”
أخطر ما في هذا الاتفاق أنه يعيد تعريف فكرة الدولة السورية نفسها. فالبند الأخير الذي يمنع دخول أي مؤسسة حكومية سورية إلى السويداء، يسمح في المقابل بعمل منظمات الأمم المتحدة، ما يعني عمليًا إعلان فصل إداري وسياسي بين السويداء ودمشق، حتى لو لم يُعلن استقلال رسمي.
هذه الصيغة تكرّر نماذج سابقة:
• إدلب تحت “حكم الشرع”.
• الشمال الشرقي تحت “قسد”.
• الجنوب تحت رعاية أمريكية/إسرائيلية.
وفي الحصيلة: دولة مفككة، يحكمها أمراء حرب وعقود رعاية دولية.
خلاصة تحليلية
الاتفاق ليس مجرّد تفاهم أمني، بل خطوة حاسمة في تفكيك سوريا إلى كيانات طائفية وإثنية.
إسرائيل خرجت بأرباح أمنية وسياسية.
الولايات المتحدة عززت نفوذها المباشر دون نشر جندي واحد.
والسويداء وُضعت أمام خيارين:
• حكم ذاتي مراقب.
• أو فوضى مدمّرة.
ويبقى السؤال الأهم:
هل ما جرى في الجنوب سيتكرر في الشمال والوسط؟ وهل ما زالت سوريا دولة أم مجرّد خريطة تجريبية للقوى الدولية والإقليمية؟