سوريا ما بعد "التحرير": ساحة مؤجرة للنفوذ الأجنبي

  • A+
  • A-

 نبض سوريا -  خاص 

منذ ما يقارب العام، وفيما يصفه مراقبون بمرحلة "ما بعد بشار"، تحولت سوريا طوعا إلى ساحة مفتوحة للقواعد العسكرية الأجنبية. لم تعد الأرض التي شهدت حربا داخلية طويلة بحاجة إلى معركة جديدة لتحديد المنتصر؛ فالخريطة اليوم تتحدث عن نفسها: قواعد تركية تمتد من إدلب إلى الفرات، وقواعد روسية تحافظ على حضورها في الساحل، وأخرى أمريكية تتوسع رغم وعود التقليص. أما الجنوب فبات تحت عين إسرائيل، عبر قواعد استخباراتية معلنة وضربات منتظمة، في مشهد يجعل من "التحرير" عنواناً ساخراً لواقع جديد.



من “ما بعد الحرب” إلى “ما بعد الدولة”


لم يكن العام الأخير في سوريا عاما هادئا، بل مرحلة انتقالية غيّرت ملامح الجغرافيا السياسية والأمنية. فبعد توقف معظم الجبهات العسكرية، ظهرت خريطة جديدة للقوى المتحكمة بالبلاد، حيث أضحى التواجد الأجنبي أكثر استقرارا وعلنية، وكأنه بات جزءاً من “بنية الدولة الجديدة” لا طارئا عليها.


وفق تقديرات مراكز بحث دولية، تضم سوريا أكثر من 300 موقع عسكري أجنبي تتقاسمه أربع قوى أساسية: تركيا، روسيا، الولايات المتحدة، وإسرائيل، غير أن التطورات الأخيرة أظهرت أن واشنطن لم تكتفِ بالإبقاء على وجودها في الشرق، بل اتجهت إلى توسيع حضورها في مناطق قريبة من العاصمة دمشق.


واشنطن… من تقليص مزعوم إلى توسّع فعلي


قبل أشهر، تحدث مسؤولون أمريكيون عن نية تقليص القواعد في سوريا والاكتفاء بقاعدة واحدة شرق الفرات. لكن الواقع على الأرض يروي رواية مختلفة.

فبحسب تقرير لوكالة رويترز نُشر حديثا، تبحث الولايات المتحدة إمكانية إنشاء قاعدة جوية في مطار المزة العسكري دمشق، وهو ما يشير إلى أن واشنطن لا تتجه نحو الانسحاب، بل نحو تثبيت وجود استراتيجي أعمق داخل البلاد.


هذا التحرك الأمريكي يأتي بعد سنوات من تمركز قواتها في قواعد مثل التنف والحسكة ودير الزور، حيث تتحكم إلى حد كبير بمساحات واسعة من الشرق السوري وبالمعابر الحدودية مع العراق.

ويعتبر مراقبون أن الخطوة الأمريكية في المزة – إن تمت – ستكون تغييراً جذرياً في تموضع واشنطن داخل الجغرافيا السورية، إذ تمثل دمشق قلب القرار السياسي والعسكري في البلاد، وتحوّل المطار العسكري إلى قاعدة أجنبية يعني دخول النفوذ الأمريكي إلى “منطقة السيادة الرمزية” للنظام.


روسيا: البقاء في الساحل… والتمدد الهادئ


في المقابل، حافظت روسيا على حضورها العسكري المكثف في الساحل السوري، خصوصا في قاعدتي حميميم الجوية وطرطوس البحرية، مع توسع صامت في مواقع تدريب وإمداد داخل ريف حماة واللاذقية.

هذا الوجود لم يعد يقتصر على “حماية النظام”،كما كانت تروج، بل تحوّل إلى تموضع استراتيجي طويل الأمد في شرق المتوسط. موسكو تُدير اليوم أكثر من مجرد قواعد عسكرية، فهي تملك موانئ ومنشآت دائمة، وتتحكم في جزء من المجال الجوي السوري، ما يجعلها طرفًا فاعلًا لا يمكن تجاوزه في أي ترتيبات مستقبلية.


تركيا: حدود القواعد وحدود النفوذ


شمال البلاد يبدو اليوم أشبه بامتداد للسياسة التركية. تنتشر القواعد العسكرية ومواقع المراقبة من إدلب حتى جرابلس، فيما تُدار معظم المناطق الشمالية بآليات أمنية وإدارية تركية، تشمل العملة والاتصالات والتعليم.

أنقرة تبرر وجودها بأنه ضروري لحماية أمنها القومي من "التهديد الكردي"، لكنها في الواقع أعادت رسم خريطة الشمال السوري بما يتناسب مع مصالحها، ما جعل الحدود بين النفوذين السوري والتركي شبه رمزية.


الجنوب: العين الإسرائيلية


أما الجنوب السوري، فقد تحوّل منذ عامين إلى ساحة عمليات مفتوحة أمام إسرائيل التي لا تعلن عن قواعد ثابتة، لكنها تمتلك شبكة مراقبة استخباراتية واسعة، وتنفذ ضربات جوية دقيقة داخل العمق السوري بشكل شبه أسبوعي.



هذا الحضور غير المعلن يخلق واقعاً جديداً عنوانه أن السيادة الجوية السورية باتت موزعة فعليا بين موسكو وتل أبيب، فيما تقف دمشق عاجزة عن فرض أي ردع حقيقي.



مشهد السيادة الممزقة


توزّع القواعد العسكرية الأجنبية داخل سوريا اليوم لا يعبّر فقط عن تعدد الولاءات، بل عن تآكل مفهوم السيادة.

فبينما تحاول دمشق إعادة بناء مؤسساتها وفتح أبواب “الإعمار”، تجد نفسها أمام أراضٍ تتحكم فيها جيوش أربع دول، لكل منها أجندة ومصالح متباينة.

المفارقة أن هذا التوزيع لا يتم قسراً دائماً، بل في أحيان كثيرة بشكل طوعي أو توافقي، كما لو أن البلاد دخلت مرحلة “التعايش مع الاحتلالات الجزئية”.


سوريا في المزاد الجيوسياسي


 ما يجري هو تحوّل من “التحرير” إلى “التخصيص”، حيث باتت كل منطقة تتبع لقوة بعينها، وفق تفاهمات غير معلنة بين الفاعلين الخارجيين.

القاعدة الروسية تحمي الساحل، والقاعدة التركية تضبط الشمال، والقواعد الأمريكية تسيطر على الشرق، بينما الجنوب تحت مراقبة إسرائيلية مباشرة.

ومع دخول فكرة إنشاء قاعدة أمريكية في مطار المزة، يتكرّس أن سوريا لم تعد ساحة حرب فقط، بل منصة لتقاطع المشاريع الدولية، وكل طرف يثبت حضوره من خلال “قاعدة” جديدة.


المكان علينا… والقاعدة عليك


هكذا تبدو سوريا اليوم: دولة خرجت من الحرب لكنها لم تدخل السلام. أرضها محررة من المعارك، لكنها أسيرة للقواعد.

في مرحلة ما بعد بشار، تتحول البلاد تدريجيا إلى ساحة مؤجرة للنفوذ الأجنبي، تُوزّع مواقعها كما تُوزّع الامتيازات الاقتصادية، وتُدار من الخارج أكثر مما تُحكم من الداخل.


فالمكان سوريّ، نعم، لكنّ القرار فيه موزّع بين أربع عواصم.

ولذلك، لا يُمكن وصف المشهد إلا بما يردّده السوريون بمرارة اليوم:

"المكان علينا… والقاعدة عليك."