سلطة هشّة تبيع السيادة لتبقى..
الطريق المفتوح أمام مطامع تركيا وإسرائيل وروسيا في سوريا

  • A+
  • A-

 نبض سوريا - خاص 

تتحول الساحة السورية منذ مطلع عام 2025 إلى مسرح مفتوح أمام القوى الإقليمية والدولية الثلاث: تركيا، وإسرائيل، وروسيا، في ظل سلطة جديدة تبدو عاجزة عن حماية حدودها أو فرض سيادتها على الأرض، وتكتفي بخياراتٍ متناقضة هدفها الأوحد البقاء في الحكم مهما كان الثمن.


سلطة جديدة... بلا مؤسسات


في نهاية عام 2024، سقط نظام بشار الأسد بعد هجوم متفق عليه، أنهى أكثر من عقدين من الحكم، لتتولى هيئة تحرير الشام الحكم بقيادة أحمد الشرّع (أبو محمد الجولاني) إدارة البلاد. غير أنّ هذا الانتقال الدراماتيكي لم يُنتج استقراراً سياسياً أو مؤسساتياً، بل أوجد فراغا هائلاً في البنية الإدارية والعسكرية للدولة.


تفكّكت أجهزة الدولة القديمة، وتبدلت الولاءات داخل الجيش، واندلعت نزاعات محلية بين مكونات المجتمع السوري، خصوصا بين الأكراد والسلطة المركزية الجديدة. هذا الواقع جعل الحكومة الوليدة تحت ضغط داخلي خانق وضغوط خارجية أكبر، في ظلّ حاجتها إلى دعم سياسي واقتصادي عاجل.


السلطة الجديدة سارعت إلى توقيع اتفاقٍ مع "قوات سوريا الديمقراطية" (SDF) لدمج عناصرها في الجيش السوري، في خطوةٍ فُسرت على أنها تنازل اضطراري أكثر من كونها اتفاقا وطنيا جامعا. لكن مالبثت  تماطل في تنفيذه.


في المقابل، كثّفت الحكومة اتصالاتها مع أطراف إقليمية ودولية بحثًا عن اعترافٍ سياسي ومساعدات مالية لإعادة الإعمار، ما جعلها ساحة جذب ونفوذ مفتوحة أمام القوى الثلاث الأكثر حضورا: تركيا، إسرائيل، وروسيا.

تركيا: توغل محسوب في الشمال ومساومات على النفوذ


تتحرك أنقرة بخفةٍ وذكاء لاستثمار الهشاشة السورية الجديدة. فتركيا ترى في سوريا امتدادًا مباشرًا لأمنها القومي، وتتعامل مع حدودها الجنوبية كمنطقة حيوية يجب السيطرة عليها أمنيًا وسياسيًا.


تعمل أنقرة على تثبيت وجودها العسكري شمال سوريا تحت ذريعة منع قيام كيان كردي يهدد أمنها، لكنها في العمق تتابع تنفيذ مشروع نفوذ طويل الأمد، يشمل قواعد ميدانية ومراكز تدريب واتفاقات عسكرية مع دمشق الجديدة. وتشير تقارير دبلوماسية إلى أنّ أنقرة وقّعت في آب/أغسطس 2025 اتفاقًا مع الحكومة السورية للتعاون في التدريب العسكري وتبادل المعلومات الأمنية، ما يمنحها موطئ قدمٍ شرعي داخل الأراضي السورية.


تسعى تركيا أيضًا إلى تحقيق مكاسب اقتصادية من خلال المشاركة في مشاريع إعادة الإعمار، وتوظيف شركاتها داخل سوريا. كما تحاول أن تستخدم ملف اللاجئين كورقة ضغط لانتزاع مزيد من التنازلات، إذ تربط أيّ عودة منظمة للاجئين السوريين بموافقة دمشق على ترتيبات أمنية وسياسية محددة.


ورغم تنسيقها النسبي مع موسكو، فإن العلاقة التركية ـ الروسية تبقى محكومة بالتنافس في مساحات النفوذ، في حين تحافظ أنقرة على توازنٍ دقيق مع إسرائيل لتجنّب الصدام في الميدان السوري. تصريحات وزير الخارجية التركي في نيسان/أبريل الماضي عبّرت عن هذا التوجه حين قال إن أنقرة "لا ترغب بصدامٍ مع إسرائيل في سوريا، لكنها ترفض الغارات التي تضعف الحكومة السورية الجديدة"، في إشارةٍ واضحة إلى سعي تركيا لتثبيت سلطة صديقة تحت مظلتها.


إسرائيل: ضربات متواصلة وتنسيق مع موسكو لتكريس الضعف السوري


إسرائيل تواصل حضورها العسكري النشط في الأجواء السورية دون أيّ قيود، مستفيدةً من انشغال الحكومة السورية بأزماتها الداخلية. فمنذ مطلع العام الجاري، شنّت تل أبيب عشرات الغارات التي استهدفت مواقع في دمشق وريفها وحمص ودير الزور، بذريعة مواجهة الوجود الإيراني.


غير أنّ مراقبين يرون أن الهدف الإسرائيلي الحقيقي يتجاوز إيران إلى تفكيك ما تبقى من القدرات السورية ومنع تشكّل دولة مركزية قوية على حدودها الشمالية.


إسرائيل تسعى للإبقاء على سوريا ضعيفة ومجزأة، وتعمل على رسم خطوط تماس جديدة في الجنوب، خصوصًا في الجولان ومحيط درعا، حيث تسعى لتوسيع ما تسميه "المنطقة الآمنة". كما تجري محادثات غير مباشرة مع أنقرة لتجنّب أيّ احتكاكٍ عسكري بين الطرفين داخل سوريا.


وفي أبريل 2025، عقدت تركيا وإسرائيل محادثات في أذربيجان لتنسيق التحركات الميدانية وتفادي الحوادث الجوية. بالتوازي، ترى تل أبيب في الوجود الروسي بسوريا عامل توازن يمنع التمدد التركي الكامل، إذ يمكن التنسيق مع موسكو بشأن مناطق النفوذ وممرات الطيران.


وتشير تقديرات أمنية إلى أنّ إسرائيل ترغب في "تجميد" الملف السوري على حاله الراهن، مع إبقاء دمشق منشغلة بإعادة ترتيب أوضاعها الداخلية، لتضمن بذلك حدودًا آمنة ومستقرة دون كلفة سياسية أو عسكرية كبيرة.


روسيا: الحفاظ على القواعد بأي ثمن

منذ تدخلها العسكري في سوريا عام 2015، تعتبر موسكو أن حضورها في الساحل السوري ركيزة أساسية لاستراتيجيتها في الشرق الأوسط. قواعدها في حميميم وطرطوس تمثل منفذها العسكري إلى البحر المتوسط، وعنوانا لنفوذها الإقليمي في مواجهة الغرب.


إلا أنّ تغيير السلطة في دمشق أضعف موقف روسيا بالعلن أمام الغرب ،رغم ان الجميع يدرك أن سقوط سوىيا كان بتوافق تركي روسي. لكن لم تمنح روسيا المجال للغرب بنشوة النصر عليها في سوريا، تحركت روسيا دبلوماسياً وعسكرياً لإعادة تثبيت مواقعها، طلبت  قيادات السلطة الجديدة وأملت عليهم بنود لضمان استمرار وجودها العسكري مقابل حزم دعمٍ لوجستي واقتصادي.


تحاول موسكو اليوم إعادة بناء نفوذها من خلال اتفاقات طاقة وإعمار، وامتيازات للشركات الروسية، إضافة إلى صفقات لتزويد الجيش السوري بالسلاح. وهي تدرك أن السلطة الجديدة لا تمتلك الاستقرار ولا الشرعية الكافية، لكنها تراهن على ضعفها، لأن الضعفاء — كما تقول مصادر روسية — "يوقعون كل شيء".


ورغم احتفاظ روسيا ببعض نفوذها التقليدي في الساحل، إلا أنها تواجه منافسة من تركيا شمالًا، وضغطًا إسرائيليًا جنوبًا، ما يجعلها لاعبًا حذرًا يسعى إلى ضمان بقائه أكثر من توسيع نفوذه.


طريق مفتوح وتنازلات متبادلة


تتضافر هشاشة السلطة الجديدة في دمشق مع التنافس الثلاثي بين تركيا وإسرائيل وروسيا لتفتح الطريق أمام مزيد من التوغلات والنفوذ. فالحكومة السورية تسعى إلى تثبيت حكمها بأي ثمن، حتى لو تطلّب الأمر تقديم تنازلات تمسّ السيادة الوطنية.


من أبرز هذه التنازلات المتوقعة:


السماح بتواجد عسكري تركي دائم في الشمال مقابل دعم سياسي وضمانات أمنية.


إعادة منح روسيا امتيازات اقتصادية وعسكرية مقابل استمرار حمايتها.


القبول بآليات أمنية مشتركة مع إسرائيل ونزع السلاح في الجنوب  لتجنب التصعيد في المستقبل.


تخفيف دعمها للفصائل المسلحة أو بعض القوى الداخلية التي تراها تركيا وإسرائيل مهدِّدة.


إلى جانب ذلك، تعاني السلطة السورية الجديدة من أزمة شرعية داخلية، وضغوطٍ من فصائل محلية ترفض “الانفتاح المفرط” على الخارج، ما يجعل أي اتفاقٍ جديد محفوفاً بالتوتر الداخلي.




في المحصلة، تتحول سوريا تدريجيًا إلى رقعة نفوذ مقسّمة بين ثلاث قوى رئيسية: تركيا التي تكرّس حضورها في الشمال، إسرائيل التي تفرض واقعًا أمنيًا في الجنوب، وروسيا التي تتمسّك بموطئ قدمٍ على الساحل. أما السلطة الجديدة في دمشق، فتبدو عاجزة عن رسم حدود سيادتها، مكتفية بدور المتفرج الذي يوقّع ما يُملى عليه مقابل ضمان البقاء في الحكم.


إنها سلطة بلا مشروع وطني، تواجه مشهدًا إقليمياً يزداد تشابكاً، فيما تُدار البلاد كصفقة مفتوحة بين القوى الثلاث، تُرسم خرائطها وفق ميزان المصالح لا ميزان السيادة.