من جاسوس في الأقبية إلى سلطة تُدير التفكك: اختراق يتجاوز نموذج إيلي كوهين

  • A+
  • A-

 نبض سوريا - خاص 

لم يعد اختراق الدولة السورية يُقاس اليوم بعدد الوثائق المسرّبة أو المواقع العسكرية المكشوفة، كما كان الحال في زمن إيلي كوهين، بل بطبيعة النظام السياسي والاجتماعي الذي يُعاد إنتاجه تحت مسمى السلطة. 


ففي حين شكّل كوهين حالة اختراق استخباراتي خطيرة، لكنها محدودة الزمن والأثر وقابلة للاحتواء،فإن المرحلة الحالية تمثل نموذجا أشد تعقيدا وخطورة، حيث يتحول الاختراق من فعل سرّي إلى واقع حاكم يُدار من داخل مؤسسات الدولة نفسها.


إيلي كوهين تسلل إلى دمشق مستفيداً من هشاشة سياسية وصراعات داخلية، واخترق الجيش عبر شبكة علاقات مع ضباط مكّنته من الوصول إلى مواقع حساسة، والحصول على معلومات استراتيجية أثرت لاحقاً على موازين القوى العسكرية. غير أن هذا الاختراق ظل مرتبطًا بشخص واحد، وبوظيفة استخباراتية واضحة، وانتهى بكشفه وإعدامه، ما سمح للدولة، رغم الضربة، بإعادة ترميم بنيتها السيادية.


في المقابل، يُنظر إلى صعود أحمد الشرع إلى الحكم، وفق قراءات سياسية ناقدة، على أنه انتقال من اختراق المؤسسة إلى تفكيك الدولة، ومن جمع المعلومات إلى إعادة هندسة المجتمع على أسس انقسامية. 


فالخطر هنا لا يتمثل في تسريب أسرار أو كشف مواقع، بل في إنتاج سلطة قائمة على تعميق الشرخ بين السوريين، وإدامة حالة الاستقطاب، وتحويل الخلافات السياسية إلى تصدعات بنيوية طويلة الأمد، تُفقد الدولة قدرتها على التماسك والعمل ككيان واحد.


إن أخطر ما في هذا المسار هو ضرب العمق الوطني السوري، لا سيما الوسط الجغرافي والبشري الذي شكّل تاريخيًا نقطة التوازن والربط بين مختلف المناطق،

فقد أدى إضعاف هذا الوسط إلى تعطيل أي إمكانية لبناء مشروع وطني جامع أو إعادة تشكيل قوة ردع داخلية، ما انعكس عمليًا على تحييد سوريا كعقدة مركزية في أي معادلة مقاومة إقليمية، وترك حدود إسرائيل في حالة أمان نسبي دون الحاجة إلى اتفاقيات أو ترتيبات أمنية معلنة.


وبينما كان إيلي كوهين بحاجة إلى ضباط متعاونين وممرات سرية ليصل إلى مواقع القرار، فإن السلطة الحالية، تُمارس هذا الدور علنا عبر سياسات تكرّس التفكك، وتستنزف المجتمع، وتعيد تعريف الدولة بوصفها أداة إدارة أزمات لا كيانا سياديا. 


وهنا تكمن المفارقة الأخطر: الجاسوس القديم عمل على اختراق الدولة من الخارج، أما الاختراق الجديد، وفق هذا التحليل، فينبع من الداخل، ويتغذى من ضعف المجتمع وانقسامه، ويستمر بغطاء السلطة لا في مواجهتها.


وفي هذا السياق، يكتسب التزامن بين التحولات السياسية في دمشق والتحركات الإسرائيلية في الجنوب دلالة تتجاوز المصادفة، إذ يرى متابعون أن استمرار الانقسام الداخلي السوري يشكّل، بحكم الواقع، خط الدفاع الأكثر فعالية عن إسرائيل، من دون أن تُطلق رصاصة واحدة أو يُزرع جاسوس جديد، فحين تُشل الدولة من الداخل، يصبح الاختراق الدائم بديلاً عن العمليات السرّية المؤقتة.


وبينما بقي اسم إيلي كوهين مرتبطا بمرحلة سوداء انتهت بمحاكمته وإعدامه، تطرح المرحلة الراهنة سؤالا أكثر خطورة: كيف يمكن مواجهة اختراق لا يحمل اسم جاسوس، ولا يعمل في الخفاء، بل يتجسد في نمط حكم يُعيد إنتاج الضعف والانقسام بوصفهما قاعدة للاستقرار؟ سؤال يبقى مفتوحا في ظل دولة تُستنزف من داخلها، ومجتمع يُدفع تدريجيا إلى قبول التفكك كأمر واقع.