نبض سوريا - مقال
على طول الشريط الساحلي السوري، تلوح ملامح تحولات عميقة تتجاوز ما يُرى بالعين المجردة. لا صخب يُعلن عنها، ولا بيانات رسمية تُذاع، لكن ثمة إعادة ترتيب للأوراق تجري بخُطى مدروسة، كأنما يدٌ خفية تُعيد نحت ملامح المنطقة بلغة الصمت.
ليست موسكو من ترفع شعاراتٍ توضح أهدافها، لكن تحركاتها العسكرية والأمنية تشي بخططٍ استراتيجية أشبه بلوحة فنية يُكملها فنانٌ محترف، كل لمسة تحمل رمزية خاصة، وكل حركة تخفي وراءها رؤيةً تتجاوز مجرد انتشارٍ عسكري عابر.
في هذا المشهد، تطفو على السطح تفاصيل مُثيرة عن تعاقدات سرية مع عسكريين قدامى من جيش النظام السوري المنحل، حيث تُوّقع اتفاقيات جديدة تحت الإشراف الروسي المباشر، بهدف إحياء أجهزة أمنية وعسكرية تُبنى بعيداً عن هيكلية الدولة الرسمية. وفي مدن مثل جبلة وبانياس، تجوب قوات روسية الشوارع بحراسة مشددة، بينما تحلق طائرات عسكرية في الأجواء لساعات، كأنها تُرسّخ حدوداً جديدة لواقعٍ لم يُصرح به بعد، لكنه يتحول شيئاً فشيئاً إلى حقيقة ملموسة.
السؤال الذي يفرض نفسه: ما الهدف من هذه التحركات؟ ولماذا تبرز الآن؟
تشير تقارير محللية إلى أن روسيا تعمل على ترسيخ مشروع تقسيم جيوسياسي للمنطقة، بدأ يتجلى بوضوح بعد أحداث العنف الدامية في مارس، حيث تسعى لفرض سيطرة كاملة على الساحل السوري عبر تفاهمات غير مكتوبة مع قوى إقليمية ودولية، بينها واشنطن وأنقرة وتل أبيب.
من زاوية أخرى، يرى مراقبون أن الوجود الروسي في الساحل لا يُثير حفيظة إسرائيل، بل يُعتبر ضمانةً ضد التوسع التركي المحتمل، بينما تحوّلت موسكو من لاعب عسكري إلى وسيط إقليمي تحظى تحركاته بقبول ضمني من دول كانت في الماضي على الجانب المعاكس.
أما في العاصمة دمشق، فتبدو الصورة أكثر تعقيداً. الرئيس السوري أحمد الشرع يواجه تحولات جيوسياسية هائلة، يحاول خلالها تحقيق توازن مستحيل بين انهيار الداخل وضغوط خارجية متزايدة. على مكتبه تتراكم الرسائل الدولية المشروطة بملفات شائكة: المقاتلون الأجانب، تشكيل حكومة موسعة، ومحاربة التنظيمات المتطرفة. لكن بين كل هذه المطالب، يبقى الوجود الروسي في سوريا خطاً أحمر لا يقبل النقاش، خارج أي مفاوضات.
القضية السورية لم تعد مجرد صراع محلي، بل تحوّلت إلى رقعة شطرنج كبرى ترسم عليها القوى العظمى مصالحها. واليوم، قد تكون بداية لخريطة جديدة تُقسّم البلاد وفق معادلات القوة. فمن يملك المفتاح الحقيقي لهذا التحول؟ ومن سيحدد مصير الأرض التي غُرس فيها الدم؟
هل يشهد الساحل السوري الفصل الأول من رواية "سوريا بلا أسد"، حيث تُقطع أول خيوط النسيج الوطني لصالح مشاريع أكبر؟ الوقت وحده كفيل بالإجابة، لكن المؤكد أن الصمت الروسي ليس سوى الهدوء الذي يسبق العاصفة.
نور محمد