نبض سوريا - وائل المولى
سايكس بيكو... المظلمة التي لم تُفتح بعد
لم يكن تصريح توم بارك عن "الظلم التاريخي لاتفاقية سايكس بيكو" مجرد تأمل سياسي متأخر، بل كان اختراقًا ناعمًا في الممنوع، ورسالة مباشرة بأن حدود المئة عام الماضية قد لا تبقى كما هي. عندما يقول مسؤول أمريكي إن "بلاد الشام بحاجة لإعادة تشكيل عادلة"، فهو لا يدعو للمصالحة، بل للتفكيك على أسس جديدة، ربما تكون أكثر توافقًا مع مصالح واشنطن وتل أبيب، لا مع شعوب المنطقة.
الاتفاق البريطاني الفرنسي الذي جزّأ الجغرافيا وشرذم الهوية لا يزال حيًا، لكن القطار الأمريكي عازم على إدخال المنطقة في مرحلة "ما بعد سايكس بيكو"، عبر أدوات جديدة، وأزمات محلية متسارعة، تمهّد لتغيير الخرائط دون جيوش.
شرق الفرات… والتحديات الكردية
لم يكن الانسحاب التدريجي لحزب العمال الكردستاني وتسليم سلاحه إعلانًا عن انتصار أنقرة فحسب، بل لحظة فارقة في تموضع القوى داخل سورية. شرق الفرات، الذي كان الحلم الكردي بقيام كيان ذاتي فيه، دخل اليوم نفقاً جديداً من الغموض، حيث تلوح في الأفق ترتيبات أمريكية-تركية على حساب أكراد سورية على مايبدو ، بغطاء من “العدالة الجغرافية” بعد سايكس بيكو.
واشنطن لم تعد معنية بحماية الحلفاء بشكل اساسي ، بل بإعادة هندسة الجغرافيا بما يضمن "الاستقرار الإسرائيلي" ويمنع التمدد الإيراني والروسي. والأكراد الآن يكتشفون أن الأمور دخلت مرحلة الإشتباك ، وأنهم مجرد تفصيل تكتيكي في صراع الخرائط الكبرى.
السويداء تشتعل… النار تمهّد للممرات
في جبل العرب، المشهد ليس فقط احتجاجًا أو صراعًا ما يجري في السويداء من اقتحام أمني، ودخول فصائل مدعومة، وتهجير واعتقالات، هو جزء من عملية تطهير أمني يؤسس إلى تعديل جغرافي، أو إعلان منطقة جديدة "آمنة" أو "منزوعة السيادة".
المنطقة تُجهّز لحكم مختلف، قد لا يكون درزيًا خالصًا ولا مركزيًا سوريًا، بل كيانًا ضمن مشروع أوسع لما يُشاع عن إعادة تقاسم الجنوب السوري، خاصة في ضوء الحديث الإسرائيلي المتكرر عن "درع أمني" يمتد من الجولان إلى درعا، يشمل خطوط فصل ناعمة برضا المجتمع المحلي.-
المشروع الإسرائيلي… من التخوم إلى القلب
إسرائيل ليست مراقبًا صامتًا. بل هي الفاعل الأول في المشهد السوري الجديد. مشروعها لا يقوم على الغزو العسكري المباشر، بل على "هندسة الفوضى" وخلق وقائع جديدة على الأرض تُجهِضُ أي مشروع مقاوم، وتعيد تشكيل المجتمعات على أسس الهويات المذهبية والإثنية، تمامًا كما حدث في لبنان والعراق.
في الجنوب السوري، تسعى إسرائيل لتفريغ الدروز من هويتهم القومية وربطهم مباشرة بـ"الهم الأمني خاصة بعد الأحداث الأخيرة "، وفي شرق الفرات، هي جزء من الترتيبات التي تمنع عودة الدولة السورية أو أي قوة معادية. أما في الشمال، فتبارك المسار التركي في تحييد الأكراد وضرب العمق الكردي الإقليمي.
إعادة بلاد الشام... على مقاس الخرائط الجديدة
كل هذه التطورات ليست معزولة. سقوط النظام في دمشق، أحداث الساحل . استهداف الكنائس اشتعال السويداء، انكفاء الكرد، صمت العرب، تصاعد الدور الإسرائيلي، جميعها إشارات على أن بلاد الشام تُعاد صياغتها، لكن ليس بمقاييس أهلها. ما يُحضر الآن هو مشهد هجين: لا وحدة سورية، ولا انفصال معلن، بل فسيفساء طائفية وإثنية يديرها "الوسيط الدولي" تحت عناوين مضللة مثل الحكم الذاتي، اللامركزية، والمصالحة الوطنية.
الخرائط القديمة تنهار، لكن الخرائط القادمة ليست بالضرورة أكثر عدلاً. وما يُراد للمنطقة ليس السلام، بل السيطرة على كل ما تبقى من إرادة شعوبها.
علينا أن نستفيد من تجارب الماضي ونحدد نحن ماذا نريد .