نبض سوريا - متابعة
كتب الصحفي بديع صنيج المتخصص في الشؤون الثقافية أن العام الثقافي المنصرم في سوريا لم يكن عاماً عادياً بل كان عاما كاشفاً، وفاضحاً في بعض الأحيان، لطبيعة الدور الذي اختارته وزارة الثقافة السورية لنفسها: إدارة الخيبات بدل مواجهتها، وتطبيع الفراغ عوضاً عن مساءلته.
وقال صنيج في مقال تحليلي موسع تابعته وكالة "نبض سوريا " بدت المؤسسة الرسمية عاجزة عن الارتقاء إلى مستوى الأسئلة، مكتفية بتدوير الزمن الثقافي لا تشكيله من جديد، رغم أنه في زمن الحرب تبقى الثقافة بعيدة كل البعد عن كونها ترفاً، بل تتمركز في صُلْب إعادة الإعمار، وبالتأكيد إعادة إعمار البشر أهم بكثير من الحجر" .
وأضاف" لا ينبغي للثقافة أن تكون مجرد بندٍ سياسي قابل للتأجيل دائماً وخاصة وأن المناخ الاجتماعي في سوريا بدا مُنفتحاً وقادراً على إحداث فرق واضح عما كان سائداً، فضلاً عن قدرة المثقف السوري على تخطِّي عتبات الأحلام المؤجلة والاتجاه نحو تحقيقها"
على ما يبدو أن رياح التغيير لم تتوافق مع تلك الأحلام حسب صنيج كما أن وزارة الثقافة كانت تمارس إدارتها فيما لا يعني المثقفون وهواجسهم بشيء، من مثل الاكتفاء بتبديل فرش مكاتب الوزارة بدل تغيير الذهنية التي كانت تسود في الفترات السابقة، والتأسيس لمشروع ثقافي شامل ينطلق من الإنسان السوري، بكل فرادته وخصوصيته، ويصب فيه".
وتابع الصحفي" لكن ما جرى أن وزارة الثقافة السورية منذ عام وحتى الآن ما تزال واقفة في مفترق طريق، تتشابك فيه مطالب المبدعين والمثقفين السوريين مع الضغوطات المؤسساتية وضعف إدارتها، ويضاف إليها المرحلة السياسية الانتقالية التي تعيشها البلاد التي تركت بصماتها واضحة على كل شيء، بما فيها وزارة الثقافة لكن بطريقة سلبية للأسف".
ذاكرة بلا حارس
ولعل سرقة قطع أثرية من المتحف الوطني في دمشق لم تكن حادثة معزولة حسب تحليل صنيج" ، بل استعارة مادية لوضع الثقافة الرسمية فالذاكرة التي تُترك بلا حماية، تُنهب. والوزارة التي تتعامل مع المتحف بوصفه مبنىً لا مشروعاً وطنياً، لا يمكنها الادعاء بحراسة التاريخ".
وتابع "اللافت لم يكن وقوع السرقة، بل البرود المؤسسي الذي تلاها: بيانات مطمئنة، ووعود بالتحقيق، من دون أي مراجعة جذرية لسياسات التوثيق والحماية، أو إعلان خطة وطنية واضحة لإدارة التراث. كأن المطلوب إقفال الملف لا فتح الأسئلة، وكأن الذاكرة عبء إداري لا رأسمال رمزي، وجاءت قهقهة الوزير محمد ياسين صالح في ردّه على تلك السرقة وتبريره لها بأنها عادية طالما سُرِق متحف اللوفر الفرنسي بمنزلة كارثة إضافية في إدراك المعنى".
حياة على الهامش
رغم الصورة القامة حسب وصف الصحفي المختص بالشؤون الثقافية ، لم يكن المسرح السوري غائباً تماماً. في السلمية، المدينة التي دفعت ثمناً باهظاً لتمسكها بالمسرح كفعل مدني، قُدمت عروض مثل "الملك هو الملك" و"كأنه مسرح" ضمن مبادرات محلية، إضافة إلى تجارب شبابية اعتمدت على فضاءات بديلة وإمكانات شديدة التواضع.
كما شهدت اللاذقية وحمص عروضاً وقراءات مسرحية محدودة. لكن هذه الحيوية بقيت خارج الضوء الرسمي، وبلا دعم إنتاجي أو ترويجي أو حتى اعتراف رمزي فوزارة الثقافة، التي يفترض أن تكون منتِجاً ومنسقاً، اكتفت بدور المتفرج، تاركة المسرح يعيش مصادفة وبالعناد الفردي، وهكذا نشأ مشهد عبثي: مسرح حيّ في الأطراف، ومؤسسة مسرحية شبه ميتة في المركز، إلا إذا استثنينا بعض الأعمال في دمشق مثل "آخر ليلة أول يوم" للمخرج رائد مشرف، و"تفاصيل حدثت" للمخرج عمر العواني، و"ذاكرة اعتقال" لمحمد مروان إدلبي، وإلى جانبها في حماه عرض "ظلال على الحائط" للمخرج محمود عبد الباقي، وفي اللاذقية "طقوس الأبيض" للمخرج هاشم غزال.
أما إدارياً فما زال الجميع ينتظر خطة نوار بلبل المدير الجديد لمديرية المسارح والموسيقى، لكن أحد تصريحاته التي تشير إلى ضرورة إمهاله سنتين لتحقيق رؤية جديدة للمسرح السوري، ضربت بعرض الحائط كل الآمال بنهضة مسرحية قريبة الأجل.
المشهد لم يكن الحال أفضل في دار الأوبرا السورية بتعبير الكاتب حيث شهدت 3 عروض مسرحية فقط هي: "عوز" للمخرجة ديمة أباظة، وعرض غنائي بعنوان "وردة إشبيلية" لأحمد زهير، و"أنا عربي حر" للمؤلف والمخرج حسن سمرة.
يضاف إلى هذا الوضع المتردي أزمة المعهد العالي للفنون المسرحية التي لم تكن تفصيلاً تقنياً، بل جرس إنذار ثقافي، بعد استقالة معظم الكادر التدريسي واعتذاره عن المتابعة، احتجاجاً على إدارة لا تشاركية، وتعيينات تُدار بعقلية فوقية كتعيين غطفان غنوم عميداً للمعهد، وغياب أي حوار حقيقي مع بقية أعضاء الكادر الأكاديمي في هذا المعهد، الذي يفترض أن يكون عقل المسرح السوري.
لكن التعامل معه كمكتب تابع، لا كفضاء مستقل لإنتاج المعرفة كان بمنزلة خلل فاضح في الرؤية الثقافية، والنتيجة أن الطلاب وجدوا أنفسهم في مؤسسة تهتز تحت أقدامهم، فيما الوزارة اختارت الصمت الإداري، كأن الأزمة شأن داخلي لا يمس مستقبل المسرح برمته.
سينما خارج المؤسسة
في مقابل هذا العجز الرسمي، يرى صنيج أن السينما البديلة ازدهرت في أماكن مثل جرمانا، عبر نوادٍ سينمائية نظّمت عروضاً منتظمة لأفلام وثائقية وروائية قصيرة سورية وعالمية، أعقبها نقاش نقدي مفتوح.
هذه النشاطات لم تكن مدعومة رسمياً، لكنها استفادت من تحوّل الرقابة من المنع الصريح إلى التردد الانتقائي. فالدولة لم تشجّع، لكنها لم تمنع. وهو أدنى أشكال الدعم، لكنه كافٍ لخلق مشهد ثقافي خارج السيطرة المباشرة.
والمفارقة السياسية هنا أن أكثر القطاعات حيوية هو ذاك الذي يعمل خارج المؤسسة، وبلا خطاب رسمي، وكأن الدولة لا تزال غير واثقة من السينما بوصفها فناً عاماً، ناهيك بفكرة الإنتاج السينمائي الذي ما زال غافياً في أدراج المؤسسة العامة للسينما بوصفها القطاع الوحيد القادر على الإنتاج، والذي لم ينعشه جهاد عبدو بعد تعيينه مديراً.
ويضاف إلى تلك الخيبات تحويل سينما الكندي إلى مركز ثقافي تابع لوزارة الأوقاف، ما شكّل هزيمة رمزية للثقافة المدنية، لاسيما أن تلك السينما، بما تحمله من ذاكرة جماعية وأجهزة سينمائية متحفية ونقاشات مديدة عبر أنديتها، أُخرجت من المشهد بهدوء إداري لافت، من دون أي مقاومة حقيقية من وزارة الثقافة، بما يشعرك بأن القرار لم يكن تقنياً، بل سياسياً في عمقه: إعادة تعريف الفضاء العام، وإعادة ترتيب الأولويات، حيث تُترك السينما لتآكل بطيء، فيما تُدار الثقافة بمنطق عدم الإحراج.
دار الأوبرا.. بلا مشروع
نشاط دار الأوبرا خلال العام المنصرم حسب متابعات الصحفي جاء محدوداً هو الآخر: حفلات متباعدة للفرقة السيمفونية الوطنية وأوركسترا الموسيقى العربية، وأمسيات بلا مشروع موسيقي متكامل. لكن الحدث الأكثر دلالة كان إلغاء عرض السيمفونية السورية للمايسترو مالك جندلي. ذاك الإلغاء الذي لم يُقدَّم بصفته قراراً سياسياً، لكنه كان كذلك في جوهره، ولذلك بدل أن يُقام في دار أوبرا دمشق وعدة محافظات سورية، ظلَّ محاصراً بتبريرات الاعتبارات السياسية والأمنية العامة، وهكذا يُعاد إنتاج الرقابة لا بوصفها منعاً، بل بوصفها قلقاً دائماً من الفن حين يكون حراً أكثر مما ينبغي.
وهنا يمكن القول بأن الرقابة تغيّرت، لكنها لم تُلغَ، بل باتت أقل حدّة، وأكثر غموضاً، إذ لا خطوط حمراء واضحة، ولا معايير معلنة، بل مساحة رمادية تُدار بالخوف المسبق. وهذا أخطر من المنع، لأنه ينتج رقابة ذاتية شاملة.
الفنون التشكيلية.. حضور أقوى
المعارض التشكيلية استمرت بقوة الدفع الذاتي لصالات العرض الخاصة أكثر بكثير مما هي في الصالات الرسمية، حيث تتفرد صالات مثل "زوايا" و"مشوار" و"عشتار" والــ "آرت هاوس" بمعارض مميزة، في حين يكتفي "اتحاد الفنانين التشكيليين" بمجموعة باهتة من المعارض تأتي بصفتها ديكوراً ثقافياً، أكثر منه قطاعاً حيّاً قادراً على المواكبة والاستمرار، وكأن وزارة الثقافة تفتح صالاتها، لكنها تبقي أبواب الأسئلة الاقتصادية والاجتماعية للفن مغلقة.
والموضوع ذاته ينطبق على "اتحاد الكتاب العرب" وارتباكاته الداخلية التي بات من المؤكد أنها بنيوية، مثل صراعات تمثيل، وإرث إداري متكلس، وانفصال متزايد عن أجيال جديدة من الكتّاب، من دون أي نية للإصلاح ولا حتى للتغيير الجذري الذي كانت الأجواء مهيأة له بكل بساطة، لذلك بقي الاتحاد معلقاً بين الماضي والمجهول.
خطبة وزير الثقافة.. رمزية الإرباك
يبقى إلقاء وزير الثقافة، محمد ياسين صالح، خطبة في الجامع الأموي هو الأمر الأكثر إثارةً للجدل، لأن ذلك لم يكن حدثاً بريئاً عابراً، بل هو فعل رمزي يعكس ارتباك تعريف الثقافة نفسها. فحين تُستدعى الثقافة إلى المنبر الديني، بينما تُهمَّش في المؤسسات، يصبح الخطاب بديلاً عن السياسة، واللغة بديلاً عن الفعل، ورغم أن خطبته كانت عالية النبرة، لكن الثقافة التي يديرها على الأرض ظلَّت حتى الآن منخفضة السقف.
وعد الوزير بإقامة "معرض دمشق الدولي للكتاب" في شباط/ فبراير 2026 كي لا يتعارض مع مواعيد معارض الكتب العربية الأخرى، وذكر أنه لن تكون هناك كتب ممنوعة، وشدد على أهمية الحرية ونبذ المنع، وضرورة المعرفة اليومية المتجددة، واحتفى بدمشق مدينة للتعايش والسلم وغير ذلك من الكلام الإنشائي.
واختتم صنيج مقاله بالقول إن" ما تكشفه حصيلة عامٍ كامل من عمل وزارة الثقافة يؤكد أن الوزارة لم تفشل فقط في الإنتاج، بل في اتخاذ موقف ثقافي واضح، لا سيما أن الثقافة حتى الآن ما زالت تُدار بوصفها ملفاً حساساً يجب تهدئته وتأجيل فعاليته، لا قوة يجب إطلاقها في بلد يعيد تعريف نفسه، وكل الخشية أن تبقى هذه هي السياسة الثقافية المعمول بها في قادم الأيام.