نبض سوريا - إعداد: وائل المولى
مقدمة: نهاية مواجهة… وبداية مرحلة
شهدت منطقة الشرق الأوسط خلال شهر حزيران/يونيو 2025 واحدة من أخطر المواجهات العسكرية في تاريخ الصراع الإيراني – الإسرائيلي، امتدت لأكثر من 12 يومًا من القصف والضربات المتبادلة، بمشاركة أميركية محدودة لكنها حاسمة في إيقاف المعركة.
انتهت الحرب بوقف إطلاق نار مفاجئ أعلنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب دون تحديد معالم واضحة للتسوية، لكن ما هو مؤكّد أن هذه الجولة من الصراع، على شدّتها، لم تكن فاصلة، بل أعادت ترتيب موازين القوى وطرحت تساؤلات استراتيجية حول مستقبل المنطقة وتوازن الردع فيها.
أولاً: إسرائيل – انكشاف الردع وتراجع القدرة على الحسم
دخلت إسرائيل هذه الحرب وهي تسعى لتحقيق ثلاث أهداف أساسية: تقويض البرنامج النووي الإيراني، تدمير البنية الصاروخية الإيرانية، وتحقيق مكاسب سياسية وأمنية داخلية وخارجية من خلال استعراض القدرة على كسر الخصم الإقليمي الأقوى.
ورغم توجيه ضربات قوية لبعض المواقع النووية الإيرانية، فإن النتيجة العملياتية لم ترقَ إلى مستوى الحسم. فالصواريخ الإيرانية اخترقت العمق الإسرائيلي بكثافة، ما أضعف صورة الردع التقليدي الذي لطالما اعتمدت عليه إسرائيل. كما أن الارتباك داخل المؤسسة الأمنية، وتضارب التصريحات في القيادة السياسية والعسكرية، أظهر هشاشة في إدارة المواجهة متعددة الجبهات.
تداعيات هذا الفشل العسكري ظهرت على شكل توتر داخلي سياسي، وتساؤلات في مراكز القرار حول نجاعة الضربات الاستباقية في ظل تغيّر طبيعة الخصوم وتطوّر أدواتهم.
ثانياً: إيران – تماسك سياسي ورسائل نارية مدروسة
رغم أن إيران كانت الطرف المُستهدف منذ اللحظة الأولى، فإنها تعاملت مع الهجوم الإسرائيلي بمستوى عالٍ من الانضباط الاستراتيجي.
ردّت إيران بشكل محسوب، استهدفت خلاله قواعد أميركية في قطر والعراق، وهو ما شكّل نقطة تحوّل في مسار الحرب، ورفع الكلفة الاستراتيجية للتصعيد على الولايات المتحدة.
بالمقابل، تجنّبت إيران الانجرار إلى مواجهة شاملة، ونجحت في الحفاظ على مشروعها النووي من الإبادة الكاملة.
المكسب الأكبر لطهران في هذه الجولة كان ترسيخ مكانتها الإقليمية كقوة ردع مؤثرة، قادرة على الصمود في وجه تحالف عسكري متطور، والرد بأساليب غير متوقعة، دون أن تفقد قدرتها على ضبط وتيرة المواجهة. وهذا ما منحها هامش مناورة سياسي أكبر في اليوم التالي للحرب.
ثالثاً: الولايات المتحدة – مشاركة محدودة وقرار سياسي للتهدئة
تدخّلت الولايات المتحدة في اللحظة التي رأت فيها أن حليفها الإسرائيلي يواجه تصعيداً يتجاوز قدراته، فقامت بشنّ ضربات محددة ضد منشآت إيرانية حساسة، لكنها سرعان ما سعت إلى تهدئة الموقف بعد أن تعرضت قواعدها لهجمات صاروخية مباشرة من إيران.
قرار الرئيس ترامب بإعلان وقف إطلاق النار لم يكن من باب الانتصار، بل لحماية مصالح الولايات المتحدة من الانزلاق إلى صراع واسع في منطقة استراتيجية. وقد تزامن ذلك مع ظروف سياسية داخلية أميركية ضاغطة، أبرزها اقتراب الانتخابات الرئاسية، والحاجة إلى تجنّب حرب طويلة وغير مضمونة النتائج.
بذلك، لعبت واشنطن دورًا مركبًا: قوة مساندة عند الضرورة، ومهندس إطفاء عند الخطر، مع الحفاظ على موقعها كفاعل ضروري في معادلات الأمن الإقليمي.
رابعاً: اللاعبون الإقليميون والدوليون – مشهد معقّد وتحولات هادئة
لم تكن الحرب محصورة بين طهران وتل أبيب، بل كانت مراقبة عن كثب من عواصم القرار الإقليمي والدولي، وخلّفت آثارًا وتفاعلات لدى عدد من القوى:
• تركيا:
اتخذت موقف الحذر والمراقبة، وامتنعت عن أي اصطفاف مباشر، لكنها تحركت دبلوماسيًا بعد الهدنة في محاولة لاقتراح دور وساطة. أنقرة تنظر للحرب كفرصة لتعزيز مكانتها الإقليمية في سوريا والعراق، وإعادة تفعيل شبكتها الاقتصادية مع طهران والدوحة.
• العراق:
شكّل ساحة جانبية للحرب بعد استخدام أراضيه في الرد الإيراني ضد القواعد الأميركية. الحرب كشفت ضعف الحكومة العراقية أمام التداخلات الإقليمية، وأعادت طرح سؤال مستقبل الوجود الأميركي في البلاد، وكذلك حدود النفوذ الإيراني.
• روسيا:
استفادت من الحرب لتأكيد سرديتها حول فشل الغرب في إدارة الأزمات. وقدمت نفسها لاحقًا كطرف يمكنه لعب دور موازن في مرحلة ما بعد التصعيد، خاصة في الساحة السورية. موسكو تدرك أن تعزيز دورها في المنطقة يمر عبر معادلة “ضبط النزاع لا تغذيته”.
• الصين:
أعربت عن قلقها الكبير من تهديد استقرار الخليج، نظراً لاعتمادها على واردات الطاقة منه، وقد بدأت تتحرك بهدوء لعقد تفاهمات ما بعد الحرب لضمان انسياب التجارة والطاقة. دورها مرشح للتصاعد سياسيًا واقتصاديًا كقوة داعمة للاستقرار دون الانخراط العسكري المباشر.
• أوروبا:
كانت غائبة خلال الحرب، لكنها تسعى الآن للعودة إلى مشهد ما بعد الهدنة عبر محاولة إحياء المسار النووي التفاوضي مع إيران. المخاوف الأوروبية تتصل بأمن المتوسط والطاقة والهجرة، وكلها تتأثر بأي تصعيد طويل المدى في الشرق الأوسط.
خامساً: الانعكاسات الإقليمية – ساحات مشتعلة تحت ضغط التوازنات
لا يمكن عزل نتائج هذه الحرب عن الواقع الإقليمي المتشظي:
•غزة مرشحة لتكون ساحة التصعيد التالية، في محاولة من حكومة اليمين الإسرائيلي لتعويض ما لم يُحقّق ضد إيران، وقد بدأت الدعوات الإسرائيلية تتصاعد مجددًا نحو “حسم حماس”.
•لبنان سيبقى ساحة اختبار دائم للتوازنات. حزب الله، بصفته الحليف الأكبر للجمهورية الإسلامية الإيرانية الأقوى، بات أكثر اطمئنانًا إلى صلابة الدعم الإيراني، لكنه لن يُبادر إلى التصعيد ما لم يتعرض لتهديد وجودي مباشر.
•الخليج العربي يدخل مرحلة توجس جديدة، وقد تتجه بعض دوله إلى مراجعة تموضعها الدفاعي، وربما فتح قنوات غير رسمية مع طهران لتقليل المخاطر، بالتوازي مع تعزيز التعاون الأمني مع واشنطن أو بكين.
سادساً: نحو صفقة إقليمية؟
تبدو مؤشرات “تفاهم سياسي محتمل” أكثر وضوحًا بعد الحرب.
فالطرف الإيراني لا يمانع التفاوض من موقع القوة، والطرف الأميركي يريد إغلاق الجبهة الشرق أوسطية للتركيز على أولويات أخرى، بينما إسرائيل تُدرك أن المكاسب العسكرية لم تترجم إلى نتائج سياسية.
الصفقة المتوقعة – إن حصلت – ستكون مركبة، وقد تشمل:
•تجميد البرنامج النووي الإيراني ضمن شروط جديدة.
•ترتيبات أمنية تحفظ مصالح الخليج.
•مقايضات ضمنية في الساحات الساخنة (لبنان، اليمن، وربما في سورية ).
•وربما تفعيل مسار اقتصادي–أمني ترعاه أطراف متعددة، مثل الصين وقطر وتركيا.
خاتمة: مشهد يتغير… لا ينتهي
الحرب الأخيرة لم تكن نهاية المعركة، بل مرحلة انتقالية حاسمة تُعيد رسم خرائط القوة والردع في الشرق الأوسط.
إيران أثبتت أنها ليست خصمًا يمكن تجاوزه أو عزله.
إسرائيل أدركت أن أدواتها التقليدية لم تعد كافية لكسر المعادلات الجديدة.
والولايات المتحدة وجدت نفسها مجبرة على إدارة التوازنات لا فرضها.
إنها لحظة إعادة تموضع استراتيجي شاملة، لا تطمئن لكنها تُنبّه:
نحن أمام شرق أوسط لا يُحكم بالردع وحده، ولا يُدار بالتحالفات التقليدية فقط، بل بمنطق التفاهم القاسي، والواقعية الجيوسياسية المتغيرة