نبض سوريا - وائل المولى – كاتب وصحفي
لم تعد سوريا مجرد ساحة صراع عسكري؛ في باريس، بدأت ترتسم خيوط مشهد سياسي جديد، قد يغيّر شكل الجنوب ويعيد توزيع أوراق القوة في الإقليم. في العاصمة الفرنسية، بعيدًا عن عدسات الإعلام وضجيج التصريحات، جرى لقاءٌ يعكس تحولات أعمق من مجرد “اجتماع أمني”. وفد من الحكومة السورية الجديدة مع مسؤولين إسرائيليين، تحت رعاية أميركية ومتابعة فرنسية متصاعدة.
الحدث ليس معزولًا عن سياق إقليمي يتبدل بسرعة: جنوب سوريا يغلي، روسيا منشغلة، وإسرائيل تبحث عن هدوء استراتيجي، بينما أوروبا –وتحديدًا فرنسا– تعود لتذكّر الجميع أنها ما زالت حاضرة في معادلة الشرق الأوسط.
هواجس حكومة دمشق: تثبيت الذات وسط العواصف
السلطة الجديدة في دمشق لا تملك ترف الصراع المفتوح. هي حكومة تدرك أنّ البقاء مرهون بقدرتها على إظهار أنها ليست مجرد “سلطة أمر واقع”، بل كيان يسعى إلى اعتراف سياسي غير معلن.
• شرعية مركزية: المشاركة في اجتماعات دولية كهذه محاولة لترسيخ فكرة أن دمشق الجديدة هي المرجعية الوحيدة لسوريا.
• رفض التفكيك: أي سيناريو يُبقي الجنوب خارج سيطرتها سيشكل تهديدًا استراتيجيًا وجوديًا، وليس مجرد تحدٍّ إداري.
إسرائيل: الأمن بوصلة السياسة
إسرائيل لم تأتِ إلى الطاولة بحثًا عن “اتفاق سلام”، بل عن ضمانة صلبة:
• لا تموضع لقوى اسلامية أو قريبة من تركيا تشكل تهديداً لإسرائيل قرب الجولان.
• جنوب هادئ لا يستنزفها في لحظة تواجه فيها أزمات على أكثر من جبهة.
فرنسا: العودة من الباب السوري
ليس خافيًا أن باريس ترى في الملف السوري فرصة لإعادة صياغة دورها الإقليمي:
• فراغ القوة الروسية: غياب موسكو عن المشهد بدرجة كبيرة منح باريس نافذة للتأثير.
• الأمن الأوروبي: أي انهيار في الجنوب قد يعني موجة لجوء جديدة، أو مساحة خصبة لتنظيمات متطرفة.
• الغاز والجغرافيا: شرق المتوسط لم يعد مجرد بحر، بل مسرح صراع على الطاقة وخطوط النفوذ.
• طموح استراتيجي: فرنسا تريد أن تكون لاعبًا يصوغ الحلول لا مراقبًا يتلقى نتائج تفاهمات الآخرين.
واشنطن: استقرار مضبوط لا حلول كبرى
السياسة الأميركية تبدو أقرب إلى إدارة “ملف قابل للاشتعال” بدل حسمه. الغاية:
• منع انفجار واسع قد يجرّ المنطقة كلها إلى فوضى جديدة.
• إبقاء دمشق ضمن إطار سياسي مراقَب، دون منحها مساحة كافية لتتحرك بحرية أو تفرض شروطها.
ما بعد باريس: بوابة إلى مسار جديد؟
اتُّفق على جولات لاحقة لاستكمال النقاشات، بالتوازي مع تحضيرات لاجتماع آخر بين دمشق و”قوات سوريا الديمقراطية”. هذا التوازي قد يعكس محاولة لفتح “صفقة أوسع” تشمل الجنوب والشمال معًا، وربما ترتيبات تمتد إلى مناطق اخرى بشكل تدريجي .
السيناريوهات: ثلاثة مسارات واحتمال واحد راجح
1. تهدئة طويلة الأمد: نجاح اللقاءات في تأسيس قناة دائمة قد يقود إلى تفاهمات أمنية غير معلنة، تمهّد لإعادة دمج سوريا في المشهد الدولي.
2. صفقة مؤقتة: تفاهمات هشة تمنع الانفجار لكنها لا تلغي أسبابه، ما يبقي الجنوب على فوهة بركان.
3. تدويل كامل: إذا واصلت فرنسا تعزيز موقعها، قد يتحول الملف السوري من ساحة نفوذ روسي – إيراني إلى طاولة أوروبية – أميركية، وهو تحول سيعيد صياغة الخريطة الإقليمية برمتها.
قد يبدو هذا اللقاء في باريس مجرد تفصيل دبلوماسي في مشهد إقليمي معقد، لكنه في الحقيقة يعكس لحظة فارقة: سوريا لم تعد ساحة صراع مغلقة، وإسرائيل لم تعد تنظر إلى حدودها الشمالية كمسألة أمنية بحتة، وفرنسا تسعى إلى استعادة موقعها كصانعة توازنات. ما جرى في الغرف المغلقة ليس نهاية الطريق، بل بدايته؛ مسارٌ قد يطيل عمر الهدوء أو يفتح الباب أمام إعادة تشكيل الخريطة السياسية والأمنية للمنطقة. والسؤال الأهم: من سيملك القدرة على تثبيت هذا المسار، ومن سيحاول إفشاله قبل أن يتحول إلى واقع جديد