سوريا الجديدة أم سوريا المُفرَّغة؟ قراءة في مسار التنازلات الصامتة

  • A+
  • A-

 نبض سوريا - خاص 

ما يجري في سوريا اليوم لا يمكن اختزاله في أخطاء مرحلة انتقالية، ولا في ارتباك سلطة ناشئة تحاول النجاة وسط خرائط إقليمية قاسية. نحن أمام لحظة أعمق: لحظة تفكك المعنى السياسي للدولة، وانزياحها من كونها حارسة للأرض والذاكرة إلى كيان إداري يفاوض على الرموز قبل أن يفاوض على السيادة. حكومة الأمر الواقع لا تحكم بقدر ما تدير، ولا تقرر بقدر ما تتكيّف، وفي هذا الفارق الدقيق يكمن جوهر الأزمة.


الدولة، في معناها الحديث، ليست جهازًا خدماتيًا ولا واجهة دبلوماسية، بل سردية جامعة تُعرّف ما هو مقدّس وما هو قابل للتفاوض. حين تُترك الجغرافيا الجنوبية بلا موقف، وحين يُسقط الجولان من الخطاب السيادي، فإن ما يتآكل ليس الأرض فقط، بل فكرة الحدود نفسها.

 الصمت هنا ليس غياب الكلام، بل غياب الإرادة. هو انتقال من منطق الصراع، بكل ما يحمله من كلفة ومسؤولية، إلى منطق الإدارة الباردة، حيث تُقاس الخسارة بقدرتها على إثارة الضجيج لا بعمقها التاريخي.


الاعتراف الأميركي بسيادة إسرائيل على الجولان لم يكن حدثا قانونيا معزولًا، بل اختبارا لمعنى الدولة السورية بعد السقوط. الدولة التي لا تعترض، لا لأنها عاجزة فحسب، بل لأنها لا تريد الاعتراض، تكون قد أعادت تعريف ذاتها ككيان لا يرى في الأرض قيمة تأسيسية، بل عبئا سياسيا. هنا يتحوّل القانون الدولي من أداة نضال إلى أرشيف مهمل، وتتحول الشرعية من حق إلى منحة مشروطة.


في المقابل، يظهر تسارع مريب في ملفات أخرى، وكأن السلطة تبحث عن بدائل رمزية تعوّض بها فقدان المعنى السيادي. عودة المنظمات اليهودية، وترميم المعابد، وتنظيف المقابر، لا تُطرح ضمن سؤال العدالة التاريخية أو التعددية المتوازنة، بل ضمن خطاب مُعلّق في الهواء، موجّه إلى الخارج أكثر مما هو موجّه إلى المجتمع السوري نفسه. التعددية هنا لا تُبنى من الداخل، بل تُستعرض من الخارج، فتتحوّل من قيمة سياسية إلى مشهدية أخلاقية.


الذاكرة بدورها تخضع لإعادة ترتيب. تسليم وثائق الجاسوس إيلي كوهين ليس تفصيلا إداريا، بل فعلٌ يمس جوهر علاقة الدولة بتاريخها. الذاكرة الأمنية ليست ملك السلطة القائمة، بل جزء من الوعي الجمعي للصراع،حين تُسلَّم الذاكرة، يُسلَّم معها الحق في السرد، ويُفتح الباب أمام كتابة تاريخ جديد لا يمر عبر الألم السوري، بل عبر رضا القوى الأقوى. هنا تصبح الذاكرة عبئًا يجب التخلص منه، لا جرحًا يجب الاعتراف به.


في هذا السياق، يبدو التركيز المكثف على التراث اليهودي السوري منفصلًا عن سياقه الوطني. ليس لأن هذا التراث لا يستحق الحماية، بل لأن الحماية حين تكون انتقائية تتحول إلى سياسة إقصاء ناعمة. الدولة التي تنظّف مقابر فئة، بينما لم تفتح بعد مقابرها الجماعية، لا تمارس التعددية، بل تعيد إنتاج العنف في صيغة أخلاقية مهذبة. فالعدالة لا تتجزأ، والذاكرة إن لم تكن شاملة تصبح أداة سلطة لا أداة مصالحة.


أما الاحتفال بعيد الحانوكا على مرصد جبل الشيخ، فليس مجرد مشهد ديني أو ثقافي، بل لحظة فلسفية كاشفة. المكان هنا يتكلم أكثر من الطقوس. حين تُضاء الشموع فوق أرض متنازع عليها، وتحت سيطرة قوة احتلال، دون رد من الدولة المعنية، فإن السيادة لا تُنتهك فقط، بل تُلغى من المخيال السياسي. ما لا يُدافَع عنه رمزيًا، يُفقد واقعيًا، وما يُترك بلا معنى يُسلَّم بلا مقاومة.


في العمق، ما نشهده هو انتقال سوريا من دولة لها رواية ( حتى وإن كانت مشوهة ) إلى كيان بلا رواية واضحة، السلطة لم تعد تقول من نحن، ولا ماذا نريد، بل تكتفي بإدارة اللحظة.

 لكن التاريخ لا يُدار، بل يُصنع، ومن لا يصنع روايته تُفرض عليه روايات الآخرين. الواقعية السياسية، حين تنفصل عن الأخلاق والسيادة، تتحول إلى استسلام مؤجل، لا إلى حكمة.


ماذا بعد؟ إذا استمر هذا المسار، فإن سوريا لن تخسر فقط أرضاً أو ملفات، بل ستخسر قدرتها على تعريف نفسها. ستصبح دولة بلا ذاكرة صلبة، بلا حدود معنوية، وبلا لغة مواجهة. أما إذا لم تُستعاد الأسئلة الكبرى حول معنى الأرض، والعدو، والذاكرة، والعدالة، فإن ما يجري اليوم سيُقرأ لاحقا لا كمرحلة انتقالية صعبة، بل كلحظة تخلّت فيها الدولة، طوعاً أو عجزاً، عن وظيفتها التاريخية، واختارت أن تكون شاهدا صامتا على تفككها.