نبض سوريا - خاص
نور محمد
في مشهدٍ يثير السخرية أكثر مما يبعث على الأمل، انشغلت قنوات عربية كـ«العربية» و«الجزيرة» بتقديم العملية الانتخابية الجارية في سوريا على أنها «أول انتخابات حرة بعد سقوط حكم بشار الأسد»، متجاهلة – أو متغافلة عن قصد – حقيقة أن هذه العملية ليست سوى إعادة تدوير لسلطة جديدة بوجهٍ مختلف، يمسك بخيوطها الرئيس المؤقت أحمد الشرع.
فالبرلمان الذي تستعد السلطة الانتقالية لتشكيله اليوم الأحد، ليس نتاج صناديق اقتراع ولا إرادة شعبية، بل حصيلة هندسة سياسية محكمة تتيح للرئيس تعيين ثلث أعضائه، في حين يجري اختيار الثلثين الباقيين عبر لجان مناطقية شكّلها بنفسه. أي انتخابات هذه التي تبدأ من الأعلى نزولًا، لا من الشعب صعودًا؟
آلية انتخاب مفصّلة على قياس الرئيس
الإعلان الدستوري الذي أصدره الشرع بعد إطاحة الأسد، نصّ على تشكيل مجلسٍ انتقالي مدّته ثلاثون شهرًا، «يُمارس مهامه إلى حين وضع دستورٍ دائم للبلاد». لكن هذا المجلس لا يأتي عبر انتخابات عامة، بل عبر آلية التفاف سياسي واضحة: لجان مناطقية شكّلتها لجنة عليا عيّن الرئيس أعضاءها بنفسه، تتولى انتخاب ثلثي أعضاء المجلس (140 عضوًا من أصل 210)، فيما يحتفظ الرئيس بحقّ تعيين الثلث المتبقي، أي 70 عضوًا كاملين، وفقاً لما وصفه مراقبون بأنه «تحكّم مباشر بالبرلمان قبل ولادته».
ووفق تسريبات من مصادر سياسية في دمشق، فإن معظم الأسماء التي أُقرت للمقاعد المخصصة بالتعيين جاءت من خلفيات موالية، أغلبها من الساحل السوري، في محاولة لتأمين توازن سياسي يضمن ولاء المجلس للرئيس الانتقالي، ويحول دون أي تشكّل فعلي لمعارضة داخل البرلمان الجديد.
محافظات غائبة وصوت واحد مسموح
في المقابل، يغيب عن المشهد تماماً تمثيل محافظات السويداء والحسكة والرقة، بعد أن أعلنت اللجنة العليا للانتخابات تأجيل اختيار ممثليها «لأسباب أمنية».
غير أن مراقبين يرون في هذا الاستبعاد تسييساً متعمّدا أكثر منه إجراءً احترازياً، خصوصًا أن تلك المناطق تشهد أصواتًا تطالب بمزيد من الحكم المحلي واللامركزية، وهي طروحات لا تجد صدى لدى الشرع وسلطته.
وبذلك، يكرّس «البرلمان الانتقالي» القادم مشهداً منقوصاً من التمثيل الجغرافي والسياسي، أشبه ببرلمان ظلّ يدار من دمشق، بأسماء جاهزة وولاءات محدّدة سلفاً، بعيداً عن أي روح تنافسية أو مشاركة فعلية.
إعلام يُصفّق للمسرحية
لكن الفضائيات التي لطالما نصّبت نفسها منابر للديمقراطية وحقوق الإنسان، اختارت أن تغضّ الطرف عن هذه المفارقات، وأن تبثّ تقارير مفعمة بالمصطلحات المريحة مثل «التعددية» و«التجربة الديمقراطية الوليدة»، وكأنّها تحتفي بمسرحية سياسية يُعاد تمثيلها منذ عقود مع تبدّل الوجوه فقط.
«يمكن أن نسمّيها أي شيء إلا انتخابات» يقول بسام الأحمد، مدير منظمة «سوريون من أجل الحقيقة والعدالة»، لصحيفة الشرق الأوسط. فكيف تحوّلت مسرحية التعيينات هذه إلى «عرس ديمقراطي» في أعين الإعلام العربي؟ وكيف يُروَّج لانتخابات بلا صناديق اقتراع ولا إشراف مستقل على أنها «خطوة نحو الحرية»؟
الجواب ببساطة: لأن بعض المنابر الإعلامية العربية تم توجيهها لتكون «نقطة مضيئة»، حتى لو كان على حساب جوهر الديمقراطية نفسها. فطالما هناك صورة صناديق، وشعارات براقة، وخطابات عن «الانتقال السلمي»، فذلك كافٍ لتصوير المشهد كإنجاز تاريخي، دون أن يكلّف أحد نفسه عناء السؤال: من انتخب من؟
انتخابات بلا انتخاب
السوريون، الذين أنهكتهم الحرب، يدركون أن السلطة لا تُمنح في قاعات مغلقة ولا تُشرعن بقرارات فوقية، وأن الحرية لا تُمنح بالتصريحات، بل تُنتزع عبر صناديق حقيقية تفتح أمام الجميع بلا استثناء.
إلى أن يحدث ذلك، ستظلّ كل «انتخابات» تُصفّق لها الفضائيات مجرّد عرضٍ إعلامي آخر... يُباع فيه الوهم على أنه ولادة جديدة لوطنٍ لم يُسمح له بعد أن يتنفس بحرية.