رهام، زرقة، رشا.. وجع العلويات في زمن الفقد والقتل والخطف

  • A+
  • A-

نبض سوريا_ خاص 

حين تُصبح الطائفة سجنًا والأنوثة تهمة


في ختام عام2024، ومع سقوط دمشق بيد هيئة تحرير الشام, لم تتوقف الحرب.

تبدّل شكلها فقط.

تحوّلت البنادق من جبهات القتال إلى الأزقة، ومن الصراع السياسي إلى الانتقام الاجتماعي.

وفي تلك الزوايا التي لم تعد تضيئها الكاميرات، كانت نساء الطائفة العلوية أول من دفع الثمن.


حالات خطفٍ، واغتصابٍ، وقتلٍ علني أحيانًا وسريّ أحيانًا أخرى، سُجّلت في مدن الساحل السوري وريف حمص.

لكن ما بقي أخطر من كل ذلك هو الصمت — صمت رسمي وتجريف لأثر الحقيقة وتشويه لمكون كامل.


زرقة سباهي... أمّ على رماد أبنائها


في قريةٍ صغيرة من اللاذقية، انتشرت مقاطع تُظهر زرقة سباهي وهي تقف ، تحرس جثث اولادها.

الصوت في الفيديو خافت، والوجوه منكسرة، لكنها تهمس:

 "ما عاد عندي شي بعدهم."

قُتل اولادها مع حفيدها أمام عينيها، في حادثة اغلقتها السلطة الانتقالية بزيارة باهتة، بعد أن أقدم عناصر من إدلب بالتشفي منها وهي تقف عاجزة حائرة لتنطق بجملتها" فشرتوا" نحن لانخون، في إشارة إلى شركاء الوطن الذين لطخوه بدمام الأبرياء بحجة "التحرير والثورة والنصر".

مصادر محلية قالت إن المسلحين اقتحموا الحيّ فجرًا، وإن العائلة كانت قد تلقّت تهديدات بسبب انتمائها الطائفي.


بقيت القصة على وسائل التواصل — مجرّد مشهد آخر من مشاهد الموت المكرّر في سوريا.


رهام نزار حمودة... المعلّمة التي واجهت الحرب بالأغنية


في حمص، لم تكن رهام نزار حمودة أكثر من معلّمة تحاول إبقاء الصفّ حيًّا وسط الانهيار.

في صباحٍ صامت، انفجرت قنبلة عند باب منزلها، لتسقط قتيلة أمام أطفالها.

رهام كانت تقول دائمًا:

 "المدرسة آخر ما تبقّى من الوطن."


لكن المدرسة فقدت صوتها يوم رحلت.

جريمتها لم تُسجّل “طائفية” في البيانات الرسمية ولم يعلق أحد من المستولين على السلطة على الحادثة، لكنها بالنسبة إلى زملائها كانت كذلك:

استهداف لامرأة علويّة لم تشارك في الحرب، بل علّمت أطفالا من كل الطوائف.


هذه الحادثة تأتي بعد أقل من ثلاثة أسابيع على مقتل المعلمة ليال دمر غريب أمام مدرستها في المدينة ذاتها، ما يعكس نهجا واضحا في استهداف النساء العاملات في الحقل التربوي، وتحديدًا في مناطق تعاني هشاشةً أمنية وانعدام الثقة بالمؤسسات القضائية.


ورغم أنّ المرصد السوري لحقوق الإنسان يوثّق منذ مطلع العام مقتل أكثر من 40 امرأة و22 طفل/ة ضمن 1116 ضحية للعنف، إلا أنّ الخطاب العام لا يزال يتجاهل الطبيعة الجندرية لهذه الجرائم، ويُفرغها من معناها السياسي والاجتماعي عبر توصيفها كـ“حوادث عابرة”.


رشا ناصر العلي... الدكتورة التي اختفت في وضح النهار


من المؤكد اليوم، وبحسب توثيقات الشبكة السورية لحقوق الإنسان, أن الدكتورة الجامعية رشا ناصر العلي، أستاذة في كلية التربية بجامعة حمص، اختُطفت يوم 20 كانون الثاني 2025 أثناء توجهها إلى الجامعة.

شوهدت آخر مرة في حيّ الزهراء، ثم اختفت.

حتى اليوم، لا جهة أعلنت مسؤوليتها، ولا أحد يعرف مصيرها.

لكنّ زميلةً لها كتبت على صفحتها بعد الحادثة:

"كنا نخاف من الحرب... لم نكن نعلم أن الحرب ستأكلنا ونحن ذاهبون إلى المحاضرة."


اختفاء رشا العلي صار رمزاً لصمت أكبر: صمت النساء اللواتي يختفين بلا أثر، ثم يُنسين كما لو أنهن لم يكنّ يومًا في هذا البلد.


حيّ القصور... بين الرواية والتوثيق


بين بانياس وحمص، تدور روايات كثيرة عن حيّ القصور الذي شهد، وفق شهادات محلية، مقتل عدد من النساء العاملات في المجال الطبي خلال غزوة الساحل في آذار.

تقول روايات الأهالي إنّ بعض الطبيبات قُتلن في منازلهنّ، أمام عائلاتهن، على خلفية طائفية، هذه الوقائع وثقت كلها على مرأى العالم أجمع.


نشرت صفحة سماعة حكيم أسماء عدة طبيبات لقوا حتفهن في مجازر الساحل.


إحدى الناجيات من الحيّ قالت لموقع "نبض سوريا": "كنا نعرف أن الموت قادم. لم نعرف فقط بأي شكل."

لذلك، يضع هذا التحقيق تلك القصص في خانة “الوقائع المؤكدة ”، على أمل أن تُفتح ملفاتها لاحقًا أمام لجان مستقلة.


النساء اللواتي عدن من الخطف... بوجوه لا تشبههن

في ريف اللاذقية، وصلت منذ أيام  سيدة إلى قريتها بعد أشهرٍ من الخطف عادت حية، لكنها لم تعد هي ذاتها.

الندوب على وجهها تروي ما لم يُكتب في التقارير.

أقرباؤها قالوا إنها كانت تتعرض للضرب والإهانة يومياً.


مثلها نساء كثيرات، لم تُسجَّل أسماؤهن في قيود السلطة الحاكمة وفقا لانتمائهم الطائفي.


حين يصير الخوف جزءا من الملام

اليوم، في الأحياء العلوية، تُغلق الأبواب قبل الغروب، ويُخفَض الصوت حين يُذكر اسم ضحية.

النساء يحاولن أن لا يخرجن إلا برفقة أقارب ورغم ذلك لا يقيهن من الخطف لأن لغة السلاح فوق أي لغة، والقلق صار هو اللغة العامة على ان من يذهب لايعود .

يقول أحد وجهاء طرطوس:

"نعيش مرحلة مظلمة في سوريا، ذل وهوان وخوف  نراه كل يوم في نظرات أطفالنا ونساءنا."

الخوف لم يعد طارئًا.

صار جزءًا من هوية المكان، ومن ذاكرة الأمهات اللواتي يربّين أولادهن على أن “يتحدثوا همسا”.


الهوية كقدرٍ جغرافي


يرى باحثون أن ما يجري منذ مطلع 2025 هو نمط جديد من العنف الطائفي، يعتمد على استهداف الأفراد بهوياتهم لا بمواقفهم.

وبينما تتجنّب السلطات المحلية وصف ما يحدث بأنه “جرائم طائفية”، فإن مؤشرات كثيرة تدل على أن النساء العلويات في الساحل ووسط سوريا يعشن تحت تهديدٍ متواصل.

تقرير العفو الدولية في تموز 2025 أشار بوضوح إلى أن “الانتماء الجغرافي والمذهبي بات عامل خطر مضاعف للنساء في مناطق النزاع المتغيرة”.


خاتمة: لا قبر للذاكرة

رهام، زرقة، رشا، والنساء العائدات من الخطف — كلهنّ وجوه لحكايةٍ واحدة:

أن تكوني امرأة علوية في سوريا يعني أن تكوني عرضة للفقد، حتى دون أن تقتربي من السياسة أو السلاح.


لكن ما هو أخطر من القتل، هو أن يُمحى اسم الضحية من السردية العامة، وأن تتحوّل قصص النساء إلى قصص مزيفة ترسمها حكومة الأمر الواقع وفق تطلعاتها.

تلك العبارة التي قالتها والدة إحدى المفقودات، تختصر الحكاية كلها.

"حرب لم تنتهِ... بل تغيّرت فقط ملامحها".

"من كان يقتلنا بالأمس أصبح اليوم حاكمنا"!!!