تحت المجهر الأمريكي: "الإلغاء المشروط" لعقوبات سوريا وأجندة إعادة الهيكلة

  • A+
  • A-

 نبض سوريا -  خاص 

لم يكن إقرار مجلس النواب الأميركي لمشروع إلغاء “قانون قيصر” خطوة عابرة أو ضمن سياسة التغيير الجذري في النهج الأميركي تجاه سوريا، بل جاء كتحوّل تقني محسوب يعيد بناء منظومة الضغط بطريقة أكثر فاعلية، ويجعل من “الإلغاء” مجرد عنوان إعلامي يخفي خلفه آلية مراقبة دقيقة تمس جوهر السيادة السورية.


فمشروع القانون، كما نقلت ذا ناشيونال، يشترط مراجعة وضع سوريا كل 180 يوماً لأربع سنوات، للتأكد من التزام دمشق بمحاربة تنظيم دا11ش، وإبعاد المقاتلين الأجانب عن مواقع السلطة، وضمان حقوق الأقليات، مع احتفاظ واشنطن بحق إعادة فرض العقوبات فورًا إذا رأت انحرافًا عن الشروط، إلى جانب تضمين القرار ضمانات أمنية لإسرائيل وإجراءات موجهة لتقليص النفوذ الإيراني في الميدان السوري. في بلد ما تزال الانتهاكات مستمرة فيه رغم سقوط النظام، وتستمر فيه الاعتقالات والتضييق والفصل القسري، بات واضحا أن الولايات المتحدة لا تنظر إلى ملف حقوق الإنسان كعامل محرك، بل كمتغير ثانوي أمام المصالح الاستراتيجية، وأن رفع العقوبات لا يتعلق بوضع السوريين ولا بمعيشتهم، بل بمدى انضباط القوى الجديدة وفق التوازنات التي تريدها واشنطن في المنطقة. 


هذا التحول يتقاطع مع تحركات إقليمية متسارعة تتعلق بمرحلة ما بعد النظام، حيث تشير التحركات سياسية إلى أن السعودية وقطر دخلتا في سباق دعم مراكز نفوذ داخل مؤسسات “المرحلة الانتقالية”، وسط أخبار شبه يومية عن تقديم دعم مالي وشبكات نفوذ لتعزيز موقع الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، في إطار صراع غير معلن على رسم شكل السلطة الجديدة.


التحركات القطرية تُعد الأكثر وضوحاً، إذ تعمل الدوحة، بالتعاون مع واشنطن، على تثبيت نفوذ اقتصادي واسع في الساحل السوري، وخصوصا في المنطقة البحرية المقابلة لمدينة بانياس، حيث تُظهر المسوحات الجيولوجية غير المعلنة وجود احتمالات كبيرة لحقول غاز في شرق المتوسط، ما يجعل الساحل السوري هدفاً اقتصادياً حيوياً للدول الطامحة لدور في إعادة الإعمار والتحكم بممرات الطاقة.


 وفي حين تتجه السعودية نحو النفوذ السياسي عبر دعم مراكز القرار الجديدة، تتحرك قطر داخل الملف الاقتصادي، بحيث يصبح الساحل السوري أحد أهم أوراق الاستثمار المستقبلي، بينما تسعى الولايات المتحدة إلى ضمان أن أي نشاط اقتصادي هناك سيكون ضمن إطار يتوافق مع مصالحها ومصالح إسرائيل، وضمن ترتيبات أمنية لا تُعيد فتح الباب لعودة نفوذ قوى غير مرغوب فيها. 


في هذه اللوحة المعقدة، يتحول الإلغاء الأميركي للعقوبات إلى أداة لإعادة توزيع الأدوار بين اللاعبين الإقليميين، وليس لتخفيف الأعباء عن السوريين أو فتح باب التنمية. فالقرار الأميركي لا يرفع القيود بل يغيّر شكلها، ولا يعيد السيادة بل يضعها تحت “نقطة فحص” تتكرر كل ستة أشهر، بينما تتحرك القوى الإقليمية في الفراغ الناشئ عن انهيار النظام لبناء نفوذها في مؤسسات الحكم والاقتصاد. 


ومع استمرار الانتهاكات وغياب مؤسسات العدالة وضعف قدرة البنى الإدارية على ضبط الأمن، يبقى السؤال الأكبر: هل باتت السيادة السورية مجرد بند يتم تداوله في الملفات الأميركية–الخليجية؟ وهل ستُمكَّن القوى المحلية من الخروج من دائرة التبعية، أم أن المرحلة المقبلة ستعيد إنتاج نموذج وصاية إقليمية ودولية تتجاوز إرادة الشارع وتختزل مستقبل السوريين ضمن مصالح النفط والغاز والسياسة؟ في ظل هذه المعطيات، يبدو أن “الإلغاء المشروط” لا يفتح بابًا نحو التحرر، بل يكرّس مرحلة جديدة تعاد فيها صياغة سوريا من الخارج، ويصبح فيها الساحل والغاز والسياسة والمال الخليجي جزءا من معادلة أكبر من قدرة الداخل على التحكم بها، فيما تتراجع مسألة حقوق الإنسان والعدالة لتصبح مجرد هامش في سياق ترتيبات جيوسياسية تقودها واشنطن وتتنافس عليها عواصم المنطقة.