نبض سوريا - خاص
لا تبدو أزمة التدفئة في سوريا مجرد انعكاس لغلاء المعيشة أو تراجع الخدمات، بل تتحول إلى ملف معقّد تُدار فيه مصادر الدفء كامتيازات خاضعة للولاء، بينما تُترك آلاف العائلات في المناطق الساحلية وريف حمص وحماة لمواجهة البرد القارس بلا وقود ولا بدائل، في مشهد يتجاوز العجز ليصل إلى حدود الإذلال الممنهج.
الوقائع على الأرض
في اللاذقية وطرطوس وريف حماة، لم يعد الحطب مجرد وسيلة تدفئة تقليدية، بل سلعة نادرة وباهظة الثمن. التحقيق يُظهر أن أسعار الحطب قفزت إلى مستويات غير مسبوقة، في وقت فقدت غالبية أهالي الساحل وريف حمص وحماة مصادر دخلهم الأساسية، سواء نتيجة توقف الأعمال الزراعية، أو انهيار المهن الصغيرة، أو انعدام فرص العمل الموسمية، ما جعل تأمين أبسط مقومات الدفء أمراً شبه مستحيل.
في المقابل، بات شراء المازوت أو الغاز خارج قدرة معظم الأسر، بعد أن تجاوزت أسعارهما دخل عدة أشهر، ما جعل الحطب الخيار الوحيد نظرياً، قبل أن يتحول عملياً إلى مادة محظورة على غير الموالين لسلطات الأمر الواقع.
التحطيب تحت الوصاية
مصادر محلية متعددة أكدت أن عمليات قطع الأشجار والتحطيب جرى حصرها بفئات محددة محسوبة على سلطات الأمر الواقع، عبر تصاريح خاصة وشبكات محسوبية، ما أدى إلى احتكار المادة ورفع أسعارها بشكل مصطنع. في المقابل، يُمنع السكان العاديون من التحطيب حتى للاستخدام الشخصي، تحت طائلة الغرامات أو الملاحقة، الأمر الذي لم يحرمهم من التدفئة فحسب، بل ألغى أيضاً أحد آخر مصادر الدخل الموسمية التي كان يعتمد عليها كثيرون خلال الشتاء.
إذلال ممنهج لا إجراءات معيشية
لا تقف سياسات سلطات الأمر الواقع عند حدود الفشل في إدارة ملف التدفئة، بل تتعداها ـ وفق إفادات محلية متقاطعة ـ إلى اعتماد كل الوسائل التي تهدف إلى إهانة أبناء الساحل وإذلالهم. فحرمان الأهالي من مصادر رزقهم، ومنعهم من التحطيب، وتركهم في مواجهة البرد بلا بدائل، يُنظر إليه على نطاق واسع بوصفه شكلاً من أشكال العقاب الجماعي، لا تنظيماً إدارياً أو إجراءً بيئياً.
ويؤكد السكان أن هذه الممارسات تُطبق بانتقائية واضحة، حيث تُمنح الامتيازات للفئات الموالية، بينما يُترك الآخرون يواجهون العوز والبرد وطوابير الانتظار والمخالفات، في مشهد يعمّق الشعور بالإذلال الاجتماعي والاقتصادي.
شهادات من البرد
يقول أبو فادي، عامل زراعي من ريف اللاذقية، إن فقدانه لمصدر دخله تزامن مع منعه من التحطيب:
«كنا نعيش من الأرض والحطب. اليوم لا شغل ولا حطب. إذا قطعنا غصناً نُعامل كمجرمين، بينما شاحنات الحطب تمر علناً لجهات معروفة».
أم علي، أرملة من ريف طرطوس، تصف الشتاء بأنه موسم خوف:
«المازوت والغاز مستحيل نشتريهم. أولادي ينامون بثيابهم، نشعل كرتون وبلاستيك ونعرف أنه خطر، لكن لا خيار آخر».
ومن ريف حماة، يروي شاب فقد مصدر رزقه بعد حصر التحطيب بجهات محددة:
«كان هذا عملي الوحيد في الشتاء. اليوم مُنعنا، بينما تُباع المادة بأسعار خيالية».
أما سالم، موظف سابق من ريف حمص، فيختصر المشهد بالقول:
«لم يعد الأمر فقراً فقط، بل رسالة إذلال. كأن البرد مقصود».
بدائل خطرة وواقع قاسٍ
مع انقطاع الكهرباء لساعات طويلة، وغياب الوقود، ومنع التحطيب، لجأ كثير من السكان إلى وسائل تدفئة بدائية وخطرة، كحرق النفايات والبلاستيك والأثاث القديم، ما يهدد صحتهم ويزيد من المخاطر البيئية، خصوصاً في المناطق المكتظة والفقيرة.
خلاصة
أزمة التدفئة في الساحل السوري وريف الوسط لم تعد أزمة أسعار أو نقص موارد فحسب، بل تحولت إلى ملف إدارة واحتكار وعقاب غير معلن، حيث يُستخدم البرد كأداة ضغط، ويُختبر صمود الناس عبر حرمانهم من أبسط حقوق العيش الكريم. ومع شتاء يُنذر بأن يكون الأقسى منذ سنوات، يبقى السؤال مفتوحاً: من يحاسب من حوّل الدفء إلى امتياز، والبرد إلى وسيلة إذلال؟