نبض سوريا - خاص
تُعد المصداقية أخطر أسلحة المواجهة في وجه أي سلطةٍ في العالم، فهي قادرةٌ على تقويض أركان الحكومات الأكثر رسوخًا، دون أن تنفع في مواجهتها آلات القمع أو الجيوش أو الأجهزة الأمنية. وفي المشهد السوري اليوم، يبدو أن السلطة الجديدة تُكرر سقوط أسلافها في فخ التناقض بين الخطاب والممارسة، مما يُغذي تراجع شعبيتها منذ لحظة "التحرير" حتى الآن.
لنتأمل مثلاً حالة "رامي عبد الرحمن" مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان: حين كان يُوثق انتهاكات نظام الأسد، اعتُبر مصدرًا موثوقًا لدى المنظمات الدولية والإعلام الغربي، لكنه تحول فجأةً إلى "خائن" و"غير موثوق" عندما أقدم على توثيق مجازرٍ في مناطق الساحل! فإما أن يكون صادقًا في رصده لجميع الانتهاكات، أو كاذبًا في جميعها. لا يُمكن للسياسة أن تُدار بمزاجيةٍ انتقائية، كمن يختار من سلة الخضار ما يشاء وفق أهوائه.
وفي سياقٍ متصل، ترفع السلطات السورية اليوم شعارًا مفاده أن "سلاح الدولة يجب أن يكون حصريًا لها"، وأن أي سلاحٍ خارج هذا الإطار يُعد إرهابًا. صحيح أن هذا مبدأٌ قانونيٌ معترفٌ به عالميًا، لكن السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا يُطلب من الناس اليوم تقبُّل ما رفضته هذه السلطة ذاتها في الماضي؟ فحين أعلن الأسد سابقًا أن "السلاح خارج الدولة إرهاب"، اتُهم بالإجرام، فكيف تُبرر السلطة الحالية تبنيها ذات المنطق الذي حاربتْه؟
الأمر لا يتوقف عند التناقض في الخطاب، بل يتجاوزه إلى تكرار أدوات القمع ذاتها. فالحكومة الحالية، كما كان نظام الأسد، تُحارب المختلفين في الرأي بذرائع الحفاظ على الأمن، عبر الاعتقالات التعسفية ومصادرة الممتلكات وتكميم الإعلام وتعديل الدستور لخدمة أجندات ضيقة. هذه الممارسات لا تُذكرنا بالماضي فحسب، بل تُثبت أن تغيير الوجوه لا يعني بالضرورة تغيير الآليات.
هذه التناقضات تُغذي سلاح المصداقية الذي يزداد حدّةً يومًا بعد يوم، ليشكل عائقًا مصيريًا أمام شرعية السلطة. إن استمرار هذا النهج سيدفع نحو تصاعد السخط، ولن تُجدي محاولات التعتيم أو القمع في إخماد صوت الحقائق. فالمصداقية كالسيف، إن لم تكن في يدك، ستكون عليك.
إذا أرادت السلطة الحالية البقاء، فعليها مراجعة سياساتها جذريًا، بدءًا من تعزيز الشفافية في التعامل الداخلي والدولي، مرورًا باحترام الحريات الإعلامية والسياسية، وصولًا إلى تجسيد العدالة بعيدًا عن الانتقائية. فغياب المصداقية لم يعد خيارًا يُمكن تجاوزه، بل هو بوابة الانهيار.