نبض سوريا - متابعة
أكد الكاتب والمحلل السياسي سركيس قصارجيان أن التحرّكات الإسرائيلية الأخيرة في سوريا، باتت مصحوبة بعمليات برية، والذي يمثل تحولاً عن التكتيكات السابقة التي كانت تقتصر غالباً على القصف الجوي والمدفعي.
بعد سقوط الأسد، نفّذت إسرائيل عمليات عسكرية موسعة لتفكيك القدرات العسكرية الاستراتيجية السورية، شملت استهداف أنظمة دفاع صاروخي وآليات ومعدّات حربية.
كما سعت إلى السيطرة على مساحات وتلال استراتيجية تمتد خارج خط فصل القوات لعام 1974، بمساحة 460 كيلومتراً مربعاً داخل الأراضي السورية، لإنشاء منطقة عازلة تحميها من التهديدات المحتملة،
ورأى قصارجيان أن إسرائيل تسوق حججاً أمنية لهذه العمليات، منها حماية حدودها وسط الفوضى في سوريا وتفادي ظهور جهات معادية جديدة، خصوصاً بقيادة أحمد الشرع، القيادي السابق في القاعدة.
وفي 3 نيسان شنّت إسرائيل غارات جوية واسعة النطاق استهدفت ثلاث قواعد جوية في سوريا: مطار “تي-4″، وتدمر، وحماة، وهي قواعد كانت قيد التقييم من قبل فرق عسكرية تركية للنظر في إمكانية استخدامها ضمن اتّفاق دفاع مشترك مع الحكومة السورية الجديدة.
الغارة على قاعدة “تي-4” كانت مدمرة بشكل خاص، حيث دمرت المدارج والحظائر والطائرات الرابضة، مما جعلها “غير صالحة للاستخدام تماماً”، وأعلنت تل أبيب أن هذه الضربة كانت رسالة عسكرية واضحة لتحذير أنقرة من أي توسع عسكري قرب حدودها.
لم تعد الحملات العسكرية الإسرائيلية تقتصر على الرد، بل باتت جزءً من استراتيجية محسوبة لردع الخصوم وفرض الهيمنة في المنطقة، وتعكس التزامها بمنع إقامة قواعد عسكرية تركية بالقرب من حدودها، والتي تراها تهديداً مباشراً لأمنها القومي.
وتعتبر إسرائيل أن الوجود التركي العسكري سيقوّض عملياتها الجوية في سوريا، خاصة إذا تم نشر أنظمة دفاع جوي متقدمة أو رادارات تركية قد تعيق استهداف المواقع داخل الأراضي السورية، في ظل مخاوف إسرائيلية من تشكل “هلال سنّي” بديل عن “الهلال الشيعي” الذي كانت تتزعمه إيران قبل تراجع نفوذها مؤخراً.
اتفاق دفاع مشترك وترسيم للحدود البحرية
تسعى أنقرة لجني ثمار دعمها لمسار إسقاط الأسد، من خلال المشاركة الفاعلة لشركاتها في إعادة اعمار سوريا، والأهم ملء الفراغ الناجم عن انحسار النفوذ الإيراني في المنطقة وانكسار أذرعها.
في جملة المكاسب المتوقعة، تعجل تركيا التوصّل إلى اتّفاق دفاع مشترك مع دمشق، والتي من المقرر أن يتم التوقيع عليه خلال مشاركة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع في قمة أنطاليا الدبلوماسية يوم الجمعة القادم.
يهدف الاتّفاق إلى تأطير الوجود التركي غير الشرعي في سوريا ضمن القوانين والأعراف الدولية من خلال الاتّفاق مع الدولة المضيفة، لاكتساب وضع شبيه بوضع الوجود الروسي في عهد الأسد.
سيتيح الوجود العسكري الواسع والمقنن على الأرض السورية لتركيا إمكانية لعب أدوار إقليمية أكثر فاعلية في منطقتي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتقديم نفسها كقوّة إقليمية موثوق بها وقادرة على ضبط خرائط التحالفات الجديدة التي باتت تتشكّل في المنطقة بعد هجمات 7 أكتوبر من قبل حماس على إسرائيل.
أما الجائزة الكبرى بالنسبة لأنقرة فتتمثل في التوصّل إلى اتّفاق لترسيم الحدود البحرية مع دمشق، وفرض المناطق الاقتصادية الخالصة وفق الخريطة التركية على دول الجوار، وذلك استكمالاً للخطوات المبكرة التي تم تنفيذها مع ليبيا.
ورغم العلاقة العدائية مع قوّات سوريا الديمقراطية “قسد”، تحاول تركيا الآن التواصل معها لمنع تصعيد إضافي في الساحة السورية، ما يؤثر على مشاريعها الإقليمية والخاصة المتعلّقة بسوريا، ويضعف من قدرتها على تقديم نفسها كضامن موثوق من قبل جميع أطراف الصراع.
دمشق بين فرص التطبيع والتحفظ الإسرائيلي
يمثل سقوط نظام الأسد فرصة وتحدّياً لإسرائيل في آنٍ واحد. فبينما تلوح إمكانية تحسن العلاقات، فإن هشاشة الوضع الأمني، والنفوذ التركي الكبير على دمشق يثيران مخاوف تل أبيب من عودة الجماعات المتطرّفة أو إعادة تدويرها بصيغة وداعم جديدين.
في مقابلة صحفية، أكّد محافظ دمشق سعي النظام الجديد لعلاقات ودية مع إسرائيل قائلاً إنهم يريدون السلام، ولا يمكن أن يكونوا خصوماً لإسرائيل أو لأي طرف آخر، في إشارة إلى انفتاح محتمل نحو حوار دبلوماسي غائب منذ عقود.
كما صرّح الشرع قائلاً إن “الشعب السوري بحاجة إلى هدنة، ويجب أن تتوقف الضربات (الإسرائيلية)” في إشارة إلى رغبته في إنهاء النزاع.
وأبدى نتانياهو استعداداً لإقامة “علاقات صحيحة” مع الحكومة السورية الجديدة، محذراً من أن أي تهديد أو هجمات على إسرائيل سيقابل برد عسكري قوي.
لكن في ظل التحديات الأمنية والاقتصادية، تبقى دمشق غير قادرة على ردع الاستراتيجية الإسرائيلية أو فرض معادلات رد جديدة، ما قد يدفعها إلى توثيق التعاون مع تركيا كخيار أقل كلفة.
هذا التعاون، رغم وجاهته من الناحية الواقعية، قد يؤدي إلى احتكاك جديد على الساحة الإقليمية، مع إمكانية انخراط قوى دولية أخرى في النزاع، ما يعقّد المشهد الجيوسياسي أكثر فأكثر.
وغيّرت اتفاقيات التطبيع التي أبرمتها إسرائيل مع عدة دول عربية ديناميكيات السياسة الإقليمية، ومن خلال معالجة قضايا محورية كالتنسيق العسكري، والاستقرار الإقليمي، يمكن لتل أبيب ضم سوريا إلى أطر مثل “اتفاقات أبراهام” تمهيداً لإرساء علاقات مستقبلية أكثر استقراراً وديمومة.
التوازنات الأميركية والروسية في سوريا الجديدة
على الرغم من طمأنة تركيا للولايات المتحدة بأن وجودها العسكري في سوريا لا يهدد إسرائيل، إلا أن الحكومة الإسرائيلية تبدي قلقاً بالغاً من تداعيات تمركز عسكري تركي دائم في الجوار.
وتأتي الاستجابة الأميركية للحيلولة دون تدهور الوضع في سوريا بشكل يُقوض أهدافها الأوسع في المنطقة، في ظل مخاوف من أن تؤدي العمليات العسكرية الإسرائيلية إلى زيادة التطرف والتهديدات الإرهابية، ساعية إلى ارساء نظام أمني حدودي جديد بين دمشق وتل أبيب لضمان الأمن طويل الأمد.
تتخوف واشنطن من أن تؤدي السياسات المتعارضة لكل من إسرائيل وتركيا في سوريا إلى خلق خطوط صدع في علاقاتها الخارجية. وفي ظل سعي كل من الدولتين لتحقيق مصالحهما، تجد الولايات المتحدة نفسها في موقف صعب وهي تحاول موازنة تحالفاتها مع الطرفين وسط استراتيجيات متباينة في سوريا.
لطالما دعمت الولايات المتحدة كلاً من إسرائيل وتركيا، إلا أن تعقيدات سياساتهما في سوريا قد تُصعب العلاقات الدبلوماسية وتفرض على صناع القرار الأميركيين اتخاذ خيارات صعبة.
الرغبة الأميركية بترتيب الوضع السوري بالشراكة مع أنقرة، والإصرار الإسرائيلي على منع التواجد العسكري التركي قرب حدودها، يشكّل فرصة لروسيا لاسترداد جزء من نفوذها السابق في سوريا، ضمن الجهود الدبلوماسية الإسرائيلية التي تهدف إلى تقوية التحالفات مع القوى الإقليمية الفاعلة لمواجهة النفوذ التركي وتعزيز موقعها الأمني في المنطقة.