نبض سوريا - دمشق
في خطوة أثارت جدلاً واسعًا، هزّت عبارة "المشروب رح يصير ممنوع" التي أطلقها قائد شرطة دمشق خلال لقائه بأصحاب محلات تقديم المشروبات الكحولية، مشهدَ العاصمة السورية، لتنكشف خلفها أزمةٌ متشعبة بين الحفاظ على الهوية الثقافية وضغوط توجهات دينية وسياسية جديدة. جاء القرار الذي طال أربعين من المطاعم والحانات في أحياء دمشق القديمة، مثل باب شرقي وباب توما، كصاعقةٍ للمجتمع المحلي الذي اعتبره انتهاكًا للتنوع الديني وتراث المدينة.
من الاحتفالات إلى الإغلاق: رحلة محلات "الكأس"
بعد سقوط نظام الأسد، شهدت بعض الحانات في دمشق احتفالاتٍ امتدت حتى الفجر، بحسب رواية صاحب حانة في الحي القديم، لكن الفرحة لم تدم طويلًا. مع صعود نفوذ فصائل إسلامية مثل "هيئة تحرير الشام"، بدأت تهديداتٌ تستهدف أماكن تقديم الكحول، تزامنًا مع انتشار مقاطعَ لعناصرها وهي تحطم زجاجات المشروبات في مطار دمشق. وعلى الرغم من عودة الهدوء النسبي لاحقًا، إلا أن غياب تشريعات واضحة يضمن استمرار هذه المحلات أبقى أصحابها في دوامة قلق، خاصة مع تكرر عمليات الإغلاق خلال الأشهر الثلاثة الماضية.
بين الفساد والضغوط الدينية: إغلاق بلا مبرر قانوني
كشف مصدر قانوني أن بعض المحلات المغلقة تمتلك تراخيص تعود لتسعينيات القرن الماضي، لكن "مخالفات مُلفَّقة" استُخدمت كذريعة لإجبارها على التوقف. وأوضح أحد المالكين أن نظام الأسد كان يفرض إغلاقًا مؤقتًا كل ثلاثة أشهر مقابل دفع "بدل مالي"، ما يشير إلى استغلال القضية كواجهة للفساد. لكن القرار الأخير تجاوز الإغلاق المؤقت إلى 30 يومًا، وسط شكوك بأن الهدف منعُ الكحول بشكل دائم، لا تنظيمُه.
ضغوط شعبية توقف "التشميع الأحمر"
تحت وطأة الغضب الشعبي ومناصرة مجموعات محلية مثل "الفزعة"، تراجعت السلطات مساء 27 آذار/مارس عن إغلاق عدد من المحلات، ورفعت الشمع الأحمر عنها بعد ضجةٍ في منصات التواصل. ومع ذلك، ظل التهديد قائمًا بتوجيه أصحابها لمراجعة المحافظة بعد عيد الفطر، دون ضمانات باستمرار العمل.
كأس الحرية في مواجهة "شرعية" جديدة
يرى أحد أصحاب البارات، أن القرار يستهدف حرية المكونات الدينية التي تسمح شعائرها بالكحول، مشيرًا إلى أن إزالته من التعرفة الجمركية الجديدة يُعزز شكوكًا ببُعد ديني للقرار. كما اضطرت فنادق كبرى، مثل "فندق الشام"، لاستبدال المشروبات بأنواع القهوة تحت ضغوط غير رسمية، رغم أن تراخيصها تسمح بذلك.
من التاريخ إلى الحاضر: "كاسك يا وطن" لم تغب
منذ عهد معاوية بن أبي سفيان إلى الويسكي الذي عرفه السوريون مع دخول الجيش إلى لبنان، ظلّت الكأس جزءًا من النسيج الاجتماعي والسياسي. وتوثّق كتب التاريخ حكايات زعماء كأديب الشيشكلي، وشعراء كنزار قباني، ارتبطوا بالمشروب. أما اليوم، فتتحول أماكن مثل حانة "أبو جورج" إلى رموزٍ للذاكرة الجمعية، حيث تُخلَّد ذكريات الشباب على جدرانها الضيقة.
مستقبل غامض وتحديات اقتصادية
يواجه القطاع أزماتٍ متلاحقة، من صعوبة استيراد الكحول إلى إغلاق المعامل الحكومية والخاصة، مثل "أفاميا" في ريف دمشق. وفي ظل غياب آليات عمل رسمية واضحة، يعبّر أصحاب المحلات عن قلقهم من تحوُّل القرارات الشفهية إلى سياسة دائمة، قد تُفقد مئات العائلات مصدر رزقهم، وتُغيّب جزءًا من روح المدينة التي عاشت قرونًا على التنوع.
هكذا، تتحول قضية المشروبات في سوريا من نقاش حول الشرعية إلى ساحة لصراع الهوية، حيث تختبر وعود "الدولة الجديدة" باحترام الحريات، وسط خشية من أن تدفن تراثيات المدينة تحت شعارات التغيير.