نبض سوريا - خاص
في تسعينات القرن الماضي، كانت شوارع سراييفو تختنق برائحة البارود وصرخات المدنيين. يومها، رفع المقاتلون رايات الجهاد، واعتقدوا أنهم يحررون البوسنة من الظلم، لكنهم سرعان ما غرقوا في مستنقع الدم والانتقام المذهبي. بعد عقدين، أعاد التاريخ المشهد نفسه على أرض الشام، مع اختلاف الأسماء وتطابق المآسي.
شهدت البوسنة واحدة من أبشع الحروب في أوروبا. صرب وكروات ومسلمون في حربٍ عرقيةٍ دمويّة انتهت باتفاق دايتون. وقتها، تدفّق مقاتلون أجانب إلى البلقان تحت شعار "نصرة المسلمين"، لكنّ حضورهم لم يكن بريئًا. أدخلوا الصراع في بعدٍ دينيّ جديد، وارتُكبت جرائم باسم العقيدة، فخاف الغرب من الإسلام، وضاعت قضية البوسنة بين التعاطف والخوف.
وبعد ربع قرن، وُلدت الحرب نفسها في أرضٍ أخرى: سورية.
بدأت الثورة هناك بشعارات الحرية والكرامة، لكنها ما لبثت أن تحوّلت إلى حربٍ مفتوحة حين حمل بعض أبنائها راياتٍ طائفية، وأعلنوا "الجهاد" لا من أجل الوطن، بل ضد طائفةٍ بعينها. ظهر خطاب التكفير، وارتفعت فتاوى القتل، وبدأت السيارات المفخخة تضرب المدارس والمستشفيات ، بحجّة أن سكانها "كفارٌ" أو "نصيريون". وتحت غطاء الثورة، نشأت جبهة النصرة وغيرها من التنظيمات التي وجدت في الفوضى أرضاً خصبة.
كانت المشاهد من الداخل السوري يشبه سراييفو في الخراب، لكنها تختلف في الجوهر: ففي البوسنة، جاء الغرب متأخراً، أما في سورية فجاء الغرب متردداً، يتفرّج على حربٍ تأكل أبناءها. كلّ طرفٍ كان يمتلك تبريراً: النظام يعلن محاربة الإرهاب، والمعارضة ترفع شعار المقاومة، وبينهما ضاع الشعب.
ما فعلته جبهة النصرة وبعض الفصائل المتشددة، لم يكن تحريراً، بل انتقاماً مغلفاً بشعارات دينية. دمّرت قرى بأكملها، فجّرت مدارس، وأعدمت مدنيين فقط لأنهم من طائفة أخرى. ومع كل تفجير، كانت صورة الثورة تتصدّع أكثر أمام العالم. لقد أرادت تلك الجماعات أن تنتقم من النظام، لكنها انتهت بقتل الفكرة التي من أجلها خرج الناس أول مرة. فبدلاً من أن تُعيد للبلاد كرامتها، كرّست انقسامها، وفتحت الباب للتدخلات الأجنبية ولعودة التطرف في كل الاتجاهات.
في البوسنة، خاف الناس من التطهير العرقي. وفي سورية، عاشوا التطهير الطائفي من كل الجهات. سقطت مدن بأيدي الرايات السوداء، وتحوّلت ثورة الشعب إلى ساحة لتصفية الحسابات بين القوى الكبرى والجماعات العقائدية. لم يعد الوطن هدفاً، بل غنيمةً توزّعها البنادق.
وهكذا، كما انتهت حرب البوسنة باتفاقٍ يحفظ السلم ولا يرمّم النفوس، انتهت ثورة سورية إلى حربٍ أنهكت الجميع. كل طرفٍ حمل سلاحه باسم الحق، فاختنقت الحقيقة بين النيران. وبينما ظنّ الثائرون أنهم يواجهون طغيان النظام، وجدوا أنفسهم أسرى لتطرفٍ أشدّ قسوةً منه.
لقد كانت سراييفو درساً في معنى العجز الدولي، أما حلب فكانت درساً في كيف يقتل الشعب نفسه حين تُعمى البصائر. فالثورات حين تُسرق باسم الدين تتحوّل إلى حروبٍ مقدّسة، وحين يُرفع التكبير على أنقاض المدارس والمستشفيات، يُمحى المعنى الحقيقي للحرية.
واليوم، حين ينظر العالم إلى البوسنة، يرى بلداً خرج من رماده رغم الجراح. وحين ينظر إلى سورية، يرى جرحاً ما زال مفتوحاً لأن أبناءه لم يتّفقوا بعد على من هو العدوّ الحقيقي.
ما أشبه البارحة باليوم... غير أن البارحة كانت حرباً على المسلمين، واليوم حرباً بأيدي بعضهم.