نبض سوريا - متابعة
كتب الخبير الاقتصادي محمد صالح فتيح :لا تزال أزمة سيولة الليرة السورية تتفاقم دون مؤشرات حقيقية على الحل، رغم أنها كانت كامنة في السنوات الماضية، إلا أن النظام السابق نجح في تأخير انفجارها عبر آليتين رئيسيتين. الأولى مرتبطة بطباعة النقد بشكل مكثف، حيث اعتمد على إصدار فئة الـ5,000 ليرة المطبوعة في روسيا، والتي شكلت عماد التغطية النقدية لسنوات. ومع حلول عام 2024، وصل التداول بهذه الفئة إلى حد التشبع، حيث أصبحت معظم السلاسل النقدية المتاحة منها بين أيدي الناس، وهو ما يمكن التأكد منه بالنظر إلى تاريخ الإصدار المطبوع على الأوراق نفسه، والذي يعود للعام الحالي مع سلاسل أحرف متأخرة. وعندما استنفدت هذه الآلية، حاول النظام إحياء الأوراق القديمة من فئة الـ1,000 ليرة المطبوعة في تسعينيات القرن الماضي، لكن ذلك لم يعد كافياً، ما جعل الأزمة تطفو على السطح بشكل سريع مع منتصف العام الجاري.
أما العامل الثاني الذي أخفى الأزمة سابقاً، فهو اعتماد النظام على دورة نقدية مغلقة، حيث كان يُمول ميزانيته عبر فرض رسوم وضرائب مرتفعة، مثل بدل الخدمة العسكرية ورسوم جوازات السفر وتفعيل الهواتف، والتي وُصفت في عام 2015 بـ"النفط الجديد" للحكومة. كانت هذه الإيرادات تغطي رواتب الموظفين ونفقات الدولة، إذ تخرج الليرات من الخزينة كرواتب ثم تعود إليها عبر الضرائب، في عملية أشبه بإعادة تدوير للنقد داخل دائرة مغلقة. لكن هذه الآلية انهارت بعد سقوط النظام، حيث ألغت حكومة تصريف الأعمال العديد من الرسوم، مثل بدل الخدمة العسكرية، وخفضت الجمارك، وتراجعت وتيرة جباية الضرائب والغرامات. النتيجة كانت اختلالاً حاداً في التدفق النقدي: فالحكومة ما زالت تدفع الرواتب وتلتزم بمصروفاتها، لكن التدفقات العائدة إلى الخزينة تقلصت بشدة، ما أدى إلى نضوب السيولة. وقد تفاقم الوضع بعد أن استنزف المصرف المركزي جزءاً من احتياطياته لشراء الدولار من المواطنين في الأسابيع التالية لسقوط النظام، ما اضطره لاحقاً إلى وقف هذه العمليات.
في مواجهة هذا المشهد، تبدو الخيارات محدودة. فالعودة إلى فرض الرسوم والضرائب المرتفعة، كما في السابق، تُعتبر خطوة غير واقعية في ظل الظروف السياسية الراهنة، وصعبة تقنياً بسبب شح النقد المتداول بين التجار والأفراد. لذلك، يبرز طباعة المزيد من الأوراق النقدية كحلٍ آني، خاصة أن النظام السابق كان قد اتفق مع روسيا على إرسال شحنات إضافية قبل سقوطه، بعضها وصل وبعضها لا يزال في الطريق. لكن حتى هذه الكميات لا تكفي، إذ توجد ثلاثة تحديات تدفع لضرورة الإسراع في زيادة الطباعة: أولاً، حاجة المناطق التي كانت تعتمد على العملات الأجنبية، مثل إدلب وريف حلب الشمالي، إلى التحول للتعامل بالليرة السورية بعد توحيد المناطق. ثانياً، توقع عودة ما بين نصف مليون إلى مليون سوري من الخارج هذا العام، ما يزيد الطلب على النقد المحلي. ثالثاً، حاجة القطاعات الاقتصادية الناشئة إلى سيولة لتمويل عملياتها، خاصة مع عودة بعض رؤوس الأموال من الخارج.
لكن هذا الحل ينطوي على مخاطر، أبرزها احتمال انخفاض قيمة الليرة بسبب التضخم النقدي، رغم أن الخطر الأكبر قد يأتي من اتجاه الاستيراد إلى الزيادة، بينما يظل الإنتاج المحلي متعثراً دون سيولة كافية لدفع الأجور وتشغيل الخطوط الإنتاجية. هكذا، ورغم أن طباعة النقد قد تخفف الأزمة مؤقتاً، إلا أن استمرار تعطل الاقتصاد سيحول دون استقرار الوضع، ما يضع الحلول الجذرية، مثل إصلاح النظام الضريبي وإعادة بناء الثقة بالعملة، في صدارة الأولويات لإنقاذ ما تبقى من قيمة الليرة السورية.